حذاء فان غوخ

single

 

 

فكرة أنّ زوجًا من الأحذية البالية يمكن أن تصنع تحفةً فنّيةً هي جزءٌ من عبقرية الرسام الهولندي فان غوخ. هل كان يعلم أنه حين اشترى زوجًا من الأحذية في باريس لرسمه أو ربّما لارتدائه سيغدو موضوعًا فلسفيًّا عن الهوية والجوهر والجمالية؟

 

زوجا حذاء، هي لوحة للرسّام الانطباعي فنسنت فان غوخ. رسمها في باريس، وكمُعظم لوحاته، لم تلق أي قبول خلال حياته؛ فمنذ أن بدأ الرسم حتى وفاته لم يبع سوى لوحة واحدة فقط. ومع ذلك، حين عُرضت اللوحة في معرض أمستردام، عام ١٩٣٠، لاقت استحسان الجماهير وكان من بينهم الفيلسوف مارتن هايدجر.

 

 

أصبحت اللوحة مادة دسمة في مقال هايدجر «أصل العمل الفني» الذي يتناول فيه طبيعة الفن بوصفها كشفًا عن الحقيقة. لقد نسب الحذاء إلى حياة الريف المشحونة بالمعاناة والانتظار والقلق والمقاومة؛ وهو حذاء فلاحة أضناها السير في الحقول حتى أصبحت التجاعيد والثقوب التي ملأته انعكاسَا لحياتها.

يقول:«لقد أطلعنا العمل الفني عل حقيقة أداة الحذاء. سيكون أسوأ خداع للنفس لو نحن قصدنا أن وصفنا، كفعل ذاتي، قد رسم كل شيء على هذا النحو، ثم أسقطه في داخل اللوحة. وإذا كان هناك ما هو مشكوك فيه هنا فلن يكون إلا هذا الفعل وهو أننا لم نعرف عن العمل الفني ونحن على مقربة منه إلا القليل».

 

 

 أليس تحميل اللوحة بهذه المدلولات المتنوعة ضربًا من الإسقاط؟ لقد خدع الفيلسوف نفسه بالفعل؛ إذ احتفظ منذ لقائه مع اللوحة بمجموعة متحركة من الارتباطات مع الريف والأرض، والتي لا يدعمها العمل الفني نفسه. يبدو أن هايدجر يرتكز على نظرته الاجتماعية الخاصة المشحونة عاطفيًّا بأسباب التعلق.

 هل أخطأ هايدجر ببساطة حين اختار هذا المثال؟ لماذا يعتقد أن الحذاء لفلاحة؟ هل هذا مجرد انفعال عاطفي تجاه لوحة وتحميلها بمعاني فائقة؟ دعونا نتخيل أن فان غوخ أراد أن يرسم لوحة لأحذية فلاحة. ألن يظهر بدقة هذه السمات التي عبد عنها هايدجر هو الذي اختبر الحياة الريفية بكل تناقضاتها؟ 

مقال هايدجر ليس الوحيد الذي أشغلته أحذية فان جوخ، فقد اتخذ هايدجر من أحذية فان جوخ مرة ثانية موضوعًا للمراسلة بينه وبين ماير شابيرو المؤرخ الفني الليتواني. 

 

 

 يرى شابيرو أن ثمة دليلًا على أن هذه الأحذية هي ملك فان غوخ وهي تحمل انكساراته الحياتية؛ إذ لا يمكن مجرد إلقاء نظرة على مادية اللوحة؛ عليك أن تدرك أن الفنان حاضر في لوحته. باختصار، يعتقد شابيرو أن فان غوخ يخبرنا عن حياته الصعبة في «زوجي حذاء» كما لو أنّ اللوحة هي أوتوبورتريه.

 يأتي جاك دريدا بآلته التفكيكية ليحرر العمل الفني من السلطوية التي يمارسها المفكران في محاولاتهما لربط العمل إما بالبعد الجغرافي أو بالبعد الذاتي. يبدو أنّ أكثر ما يهتم به دريدا هو عودة الحقيقة، أي عودة الحذاء إلى ذاته.

 يتفق دريدا مع شابيرو أن تعبير هايدجر العاطفي يعبر عن قربه من الأيديولوجية الاشتراكية القومية، ألّا أنّه يجد في تأويل شابيرو العديد من الأفكار العقائدية. في الواقع إنّنا لا ندري فعلًا إن كان فان جوخ اختار أن ينتصر للفقراء والمهمشين، أم إنه رسم زوجي حذاء على لوحة معلقة في المتاحف.

 

 

لقد جعل فان غوخ اسم اللوحة نكرة، مُجرد «زوجي حذا»؛ هل هما حقًّا زوجا حذاء؟ هل لهما المقاس نفسه؟ من أجل الخروج من هذا المأزق، يبعد دريدا العمل الفني عن سياقاته الأنطولوجية والذاتية ويضعه في مجال الهونتولوجيا: الفن سراب، تقليد لا يقلد شيئًا؛ إنّه ما وراء حدود الجوهر والحضور.

 يقول دريدا في عمله «الحقيقة في الرسم»: «وبالرغم من أنّي لم أعد أتذكّر البتّة من كان يقول ليس هناك أشباح في لوحات فان غوخ، لكنّنا لدينا فعلًا ههنا قصّة أشباح». ما الذي في "زوجيْ حذاء" يستدعي كلّ هذا الحديث حولها؟ لماذا تثير حيرتنا؟

 

 

 بوسعكم أن تُفكروا بما شئتم من المعاني والتأويلات إلا أن اللوحة ستنتصر دائمًا لذاتها؛ ذلك أنّ أي زائر سيخرج من هذا المعرض، سيدرك أن ثمة خصوصية متفردة في هذه اللوحة تجعله ينضمّ إلى قافلة المفكرين الذين أراد كلْ منهم على طريقته أن يدسّ قدميه في «زوجي حذاء» مهملين!

 

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·24-01-2024

زهور آندي وارهول

featured
Sart
Sart
·05-02-2024

الفنّ التكعيبي

featured
Sart
Sart
·13-02-2024

العين ودلالات الروح