لطالما فتنت تعابير العيون الفنانين على مر القرون وصولًا للفن الحديث والمعاصر، كما لو أنها مرآة للمجتمع والذات تشهد العالم من حوله وتدركه بأكثر من طريقة، غامضة، وحاذقة، ومُدركة، وواثقة، وحذرة. بخفوت ضوءها، وإشراقها، ودهشتها وتمردها.
لأميديو موديلياني الفنان العظيم عبارة مشهورة يقول فيها "عندما أعرف روحك، سأرسم عينيك" يلخص فيها كيف تخبر عيون المرء عما في روحه. أما فنسنت فان غوخ فقال ذات مرة: "رسم عيون الناس أحب إليّ من رسم الكاتدرائيات، ففي العين ما تفتقر إليه الكاتدرائية- مهما كانت هيبتها وسحرها."
ولرسم العيون تاريخ طويل في الثقافات، والحضارات، والفلسفات، والمدارس الفنية المختلفة. ومن اللافت للنظر أن رمزية العين في الفن كانت تصل ببعض الحضارات القديمة إلى أن تجعل للعين هوية مستقلة عن صاحبها، فترسمها وحدها لترمز بها إلى جوهر شخصية بعينها، إلى جوهر يمثل فلسفةً أو مسلكًا في الحياة.
رسم المصريون القدماء عين حورس لتكون رمزًا للنصر على الشر والحماية، في إشارة إلى أسطورة سيت وحورس. ويصور الفنان المصري ذلك الرمز أحيانًا كأنه كائن له إرادة منفصلة، لا مجرد رمز أو شكل له استخدامات روحانية أو دينية. فيظهر للعين ذراع تقدم به القرابين، دون جسد أو ملامح وجه. فيكون الرمز والمرموز إليه واحد. وإن فصل الرمز عن سياقه الطبيعي في هذين المثالين على التباعد الجغرافي بينهما يوضح مدى تأثير العين في نفوس البشر على اختلافهم ومدى قدرتها على الرمز إلى أشياء متباينة.
العمل التالي يشترك مع العملين السابقين في الاكتفاء بالعين وحدها رمزًا فنيًا فلسفيًا رغم ابتعاده آلاف السنين وآلاف الكيلومترات عنهما. يرسم رينيه ماغريت لوحة تخلو من كل شيء إلا العين، ولكن في العين سماءٌ وسُحُب، وقد نفهم من ذلك، ومن عنوانها – المرآة الزائفة — أن تلك السماء الشاسعة في هذه العين ليست انعكاسًا بالضرورة؛ قد تكون رؤية الإنسان لذاته، أو تأثير العالم من حوله فيه، أو اتصاله بالكون الذي يستحيل أن ينقطع، أو غيرها من التفسيرات التي تنسجم مع رؤية الحضارات القديمة للعين والنفس وعلاقتهما ببعضهما. قد يكون ذلك بسبب ثبات عناصر بعينها في نفوس البشر على مختلف العصور، أو بسبب تأثر فلسفات أول القرن العشرين وآخر القرن التاسع عشر -ومن بينها السيريالية- مباشرةً بفلسفات الشرق.
هنا عملان يرمزان إلى الشيء نفسه، وهو امرأة هندية، مرةً في منمنة هندية من القرن الثامن عشر ومرة في عمل فني حديث لبادجي أونغ سو. والمشترك بينهما هو العين؛ رسمة العين التي رأيناها على معبد النيبالي، هي رسمة عين المرأة الهندية في هذه المنمنمة وهي رسمة العين التي نراها أعلى هذه اللوحة التجريدية، وهي عين ترمز لفلسفة باتت جزءًا لا يتجزء من هوية أصحاب تلك العيون، حتى وإن رمز الفنان إلى كل ما دونها برموز أخرى، تظل العين هي الرمز الحاكم الذي ينطق في كل لوحة. وقد صارت العين هنا رمزًا لرمز آخر، فبعد أن رمزت لفلسفة بعينها، رمزت لأصحاب هذه الفلسفة في المنمنمة، ثم رمزت هنا لما يعنيه أن تكون من هذه الثقافة وفلسفتها (الهوية الهندية).
ويظهر عنصر العين هذا في لوحتين أخريين للفنان نفسه، الأولى أقرب إلى المنمنمة السابق عرضها، وتحمل العنوان ذاته— "امرأة هندية"، والأخرى تصور تجريدي للبوذا، وكلاهما يحمل نفس العين التي ذكرنا، بكل ما بها من أبعاد فنية وفلسفية معبرة عن الهوية الفنان والعنصر الإنساني المشترك في كل عمل فني عبر عن النفس برسم العين.
في هذه اللوحة، يضع أونغ سو العين في المنتصف، وتحدها من كل جهة خطوط حمراء تجعلها محور اللوحة لا مجرد عنصر فيه، كأنها لوحة داخل لوحة، تنظر إليك من قلب صندوق فاقع اللون .
رسمت ماريا هيلينا فييرا دا سيلفا عام 1937 هذه اللوحة، حيث تكون العيون نفسها صندوق تتمحور نظراته حول المنتصف، الذي بدوره ينظر إلى من ينظر إلى اللوحة. فهنا أيضًا العين هي محور النظر، وهي الناظر، وهي المنظور إليه، وهي حدود الوجود وجدرانه، في إشارة إلى علاقة النظر بإدراك الكون والنفس كما رأينا في لوحة رينيه ماغريت مسبقًا.
أبدع الفنان إيشر، رسمًا لعينه كما بدت في انعكاس مرآة الحلاقة المقعرة. تفكّر في هذا الإبداع، مستبطنًا فكرة أن الإنسان يرى انعكاس صورته في عين الآخر. انتهج إيشر في هذا العمل أسلوبًا رمزيًا بتصوير جمجمة تظهر في الانعكاس وأوضح سبب اختياره إلى أنها تجسيد لحتمية الموت الذي لا مفر منه ولسنا وحدنا من يحملق نحو الموت، بل الموت بذاته يرمقنا بنظرته.
عين، موريتيس إيشر، 1946
في "قصيدة لكينشاسا" للفنانة لويس مايلو جونز نرجع إلى علاقة العين بالهوية وبالإدراك الإنساني كما رأينا في أعمال أونغ سو وماغريت. ساهمت لويس في نهضة هارلم وغالبًا ما عرضت لوحاتها موضوعات تتعلق بثقافة السود وهويتهم، وعكست كفاحها ضد التمييز. فالعين هنا وراء قناع عليه أنماط وسط إفريقية، ورسمة العين نفسها تذكر بأقنعة شعوب الكونغو. ولكن الجدير بالذكر هنا أن أقنعة الكونغو مغمضة العيون، مما يضفى دلالات وأبعاد للعين المفتوحة. فقبيل رسم هذه اللوحة، غيرت الكونغو اسمها إلى جمهورية زائير، وغير رئيسها اسمه من جوزيف ديزيريه إلى سيسيه سيكو، في محاولة لإنشاء هوية وطنية أصيلة للكونغو و"إيقاظها".
هذه لوحة غواش رسمها بافيل تشيليتشو، وقد تعد المقابل للوحة دا سيلفا، فبدلًا من أن تكون العيون العنصر المكون لكل شيء، صار كل شيء مكونًا للعين. وفيها أيضًا، على سيرياليتها، رمي إلى الواقع التشريحي لعين الإنسان وما يكونها من أنسجة وأعصاب وأوعية دموية. نرى العين في حد ذاتها بوصفها عضوًا في جسد الإنسان، كأنه يشير إلى مفارقة أننا لا نرى العضو الذي يمكننا من الرؤية. إلى جانب اللوحة رسم تشريحي من كتاب طبي كُتب في القرن الثامن عشر.
لوحة سريالية زيتية على ورق تُظهر شكلاً تجريديًا يشبه العين داخل بيضة تتفتح على عدد لا نهائي على الأشكال المشابهة، كأنه رد على لوحة ماريا دا سيلفا ولوحة رينيه ماغريت، ففيها أعين عديدة ولكن انعكاسها يؤدي بها إلى النظر إلى داخلها، لا ما يحيط بها، فإذا بعين أخرى تنظر داخلها إلى ما لا نهاية، كعين بوذا النصف مفتوحة لئلا يشغلها انعكاس الكون عن رؤية باطن نفسها وكعين حورس التي استقلت عن حورس نفسه وصارت ذاتًا مستقلة.
عين في البيضة، أولو إلمار سوستر، 1962
مالدا محمد تدرس القوة العاطفية للنظرة في لوحاتها الزيتية الغامرة، ترسم مناظر مقربةً لعين واحدة وتترك للناظر مهمة إيجاد المشاعر غير المعلنة، الكامنة في وجه الشخص المرسوم. وتخفي أثر الفرشاة في بؤبؤ العين بينما تجهر به في الجفن والحاجب، جاعلةً العين محور اللوحة والناظر والمنظور معًا.