الطفلة المريضة، ادفارد مونك (1907)
يرى الشعراء والفنانون العالم بصور وزوايا لا نطّلع عليها. الزاوية التي يقفون عليها أو ما يرون من خلاله، تجعلهم يبهرونا بوصف ما درج في الأذهان معرفته، ولكن بصورة كأنها ترى لأول مرة. وأعمق ما يوصف، المعاناة بمختلف صورها، كيف خيُّل للمتنبّي أن الحمّى التي تنهكه في الليل ماهي إلا زائرة فاتنة من حيائها لا تزوره إلا في الظلام، وكيف أعطى فان غوخ صراعاته النفسيّة شكلا في لوحاته، حتّى بات أشهر رسّام يعاد تشخيص حالته النفسيّة من خلالها. كذلك حدّثونا عن معاناتهم. لكن ماذا لو تركنا المعاناة (بنفسها) تحدّثنا عنهم؟ مثلاً، رسامون عدّة عانوا مايعانيه باقي البشر من أمراض وأعراض صحيّة، لكن كان لها أثر واضح ومباشر على أعمالهم:
فرانشيسكو جويا، بعد إصابته بالصمم، وبدء معاناته مع الصداع والطنين واضطراب البصر، ازدادت ألوانه قتامة، وتحولت لوحاته عن الخرافات والشعوذة من الطابع الكوميدي الى الكآبة والسوداويّة. اشترى عام 1819م دارا بضواحي مدريد ليعيش بعيدا منعزلا عن العالم، ملأ الدار "بلوحاته السوداء[١]"، صور بملامح صاخبة، كأن الفنّان يحاول تصوير مايسمعه من صخب داخل رأسه، وقوقعته المعزولة عن العالم الخارجي، "قتال بالهراوة" و "سبت الساحرات" و "ساتورن يأكل أبناءه" و "عجوزان يتناولان الحساء" لوحات رغم أنها تركت بلا عناوين، إلا أنها سمت نفسها بتلقائيتها الصارخة بالمشهد، كأنّ الصمم أسمع جويا مالم يكن يسمعه من قبل.

قوس الأزهار، مونيه، ١٩١٣
أما إدجار ديجا كان يعاني من ضعف البصر وتفاقمت حالته كثيرا عام 1890م، لم يتوقّف عن الرسم وبدأت مواضيع لوحاته تنحصر أكثر، رسم الكثير منها بالباستيل، مثلاً، لوحات تصوّر النساء وقت الاستحمام، بمختلف الحالات، ولوحات تناولت راقصات الباليه، وهنّ خلف المسرح. بالكاد رسم ملامح الأوجه، وتفاصيل الأغراض. إلا أنّه ترك أثرا وخطوط تأثير قويّة بقلم الباستيل، كأنه كان يجسّد الأسطح المرسومة بأبعادها الثلاثيّة بقوام الباستيل. عند النظر تتخيل أطراف أصابعك تتحسس أسطح اللوحة البارزة، وملمسها الواضح، إذ أنّه ترك تفاصيل وآثار يمكن تحسسها ولمسها ولو بالنظر، كأنّه عوض ضعف بصره، بأطراف أصابعه وحساسيّتها في اللمس، بديلا يبصر ويتحسّس من خلالهما الأشياء التي رسمها.
عام 1913م الرسام كلود مونيه شخصت إصابته بإعتام عدسة العين. لم يستطع تمييز الألوان بشكل صافي، وعانى من "الغبش" واختيار اللون المناسب للمناظر، لكنه لم يتوقّف، واستمر يرسم حديقته وبركة الزنبق لديه. ويمكن تمييز اكتساح الألوان حدود الأشكال، كأن الفراغ مملوء بامتداد الألوان المشتتة، كان مونيه يرى طيف الضوء بطريقة مختلفة. وقبل التشخيص أشتهر برسم الأثر الذي تتركه الأجواء على تشتّت الألوان. لوحته الأشهر "انطباع غروب الشمس"، 1872م كان إسمها "منظر لميناء لو هافر" لكنه غيّر الاسم لأنّ اللوحة لا تظهر شكلا واضحا للميناء بسبب آثار الضباب والأجواء. أجرى مونيه عملية عام 1923م وتعافى نسبيّا لكنه فقد بصره قبل وفاته 1926م. بفضل عادته في إعادة رسم نفس المنظر لمرات عديدة وخلال سنوات يمكن تتبع أثر إصابته التي عانى منها، كأنه ترك من حيث لا يعلم سيرة ذاتيّة لإصابته.
أما صديقه رينوار عانى أواخر سيرته من التهاب المفاصل الرثياني 1904م. وأصبحت عظام يده مثل مخالب النسر، مشوهه ولايستطيع امساك الفرشاة، فكانت تربط بأصابعه ليستمرّ بالرسم، ويصارع الآلام التي كانت تضطرّه أحيانا للتوقّف عن الرسم وملازمة الفراش. يمكن رؤية أثر ذلك بلوحاته، بالكاد استطاع لمّ شتات الأشكال التي رسمها لكنه فعلها بنعومة وإصرار غريبين. التفاصيل بدأت تختفي وزوايا تمرير الفرشاة أصبحت محدودة أكثر، إلا أن ذلك لم يفقد لوحاته وألوانه بهجتها، بل إنه استطاع وضع بصمة فريدة وجميلة خاصة بتلك الفترة.

قراءة كوكو، ١٩٠٥، رينوار
هنري دي تولوز - لوتريك، كسرت ساقيه بعمر 13, وتوقفت عن النموّ، بخلاف الجزء العلوي من جسده. تشوّهت بنيته ومشيته، (وعند بلوغه لم يتعدّا طوله 153 سم). لهذا تغيّر سلوكه، ولم يعدّ الابن المفضّل لأسرته الأرستقراطيّة، ذلك أبعده نهائيّا، عن بيئته وهوايته السابقة، الصيد وركوب الخيل (التي صورها بلوحاته المبكرة). انطلق لباريس يعصر جسده بأحيائها الليليّة. راكضا بغزارة انتاجه، صوّر العالم الذي هرب إليه، بتنوّع يعكس قدرته على نبش مواطن التعبير والجمال بمحيطه الذي يضجّ بالمرح الصاخب والمسرّات القاتمة. وبذلك يهرب من إصابته وسخرية الناس من قصره. ذلك أوصله عميقا، بالكاد يُعرف رسّام تعكس أعماله انغماسا بهذا العمق. مات بعمر 37 عام 1901م بسبب الزهري وإدمانه على الكحول.
في عامها السادس، أصيبت فريدا كاهلو بشلل الأطفال، وأصبحت عرجاء، وبعد سنوات تعرضت لحادث جسيم، ألزمها الفراش لعام كامل. كسر فيه حوضها وفخذها. وعلى فراش المرض بدأت قصتها مع الرسم، الذي تخلت من أجله عن اهتمامها بدراسة الطبّ. معاناتها مع جسدها لم تنتهي، وتجّلت في أعمالها بعمق، أجهضت أكثر من مرة، واكتُشفت مشاكل بعامودها الفقري، وخضعت لأكثر من 30 عمليّة جراحّية. هذا ما جعل لوحاتها مليئة بذاكرتها الجسدية مع المرض والألم. إلى جانب نمط الرسوم التفصيليّة، واهتمامها السابق بالطبّ، اتسمت رسومها بتفاصيل تصوّر عناصر مختلفة، كأنها أعضاء داخليّة لفكرة ما. يمكن الانتباه الى أن جسدها الواهن، كان عنصرا ملفتا بلوحاتها. يمكن لمس ذلك في لوحاتها، مثلاً، "العامود المكسور" و "مستشفى هنري فورد". بالنهاية، بترت رجلها اليمنى بسبب الغرغرينا، قبل وفاتها عام 1954م.
بالأمراض النفسيّة عبّر الرسّامون مباشرة وألقوا بما يشعرونه على لوحاتهم وتركوا نتاجا يمتاز بجماليّة التعبير ولم تؤثر حالتهم النفسيّة كثيرا على مهاراتهم قسرا في حين قيدت الأمراض التي أصابت آخرين شيئا من مهاراتهم إلا أنهم واصلوا الرسم بإصرار، يمكن رؤية أثر ذلك في تغيّر أسلوبهم الذي بات تعبيرا ضمنيّا عن صراعهم ومعاناتهم مع المرض. سنكون مجحفين في حقهم لو قلنا بأن ذلك شوّه أو قلّل من مهاراتهم، إذ كشفت لنا عن ما يخبئه الرسامون من أفكار وأبعاد للتعبير بأسلوبهم وعن جوهر بديع لمفهومهم عن الجمال والرسم.

ساتورن يلتهم أبناءه، ١٨٢٠-١٨٢٣، جويا

الرقص في المولان روج، ١٨٩٥، تولوز-لوتريك

راقصتين، ١٨٩٨، ديجا

شجرة الأمل، ١٩٤٦، كاهلو