كاتسوشيكا هوكوساي، تحت الموجة قبالة كاناغاوا من سلسلة «ستّة وثلاثون منظرًا لرؤية جبل فوجي» (حوالي 1830-1832). مجموعة متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك
ترجمة: جوزيف بوشرعه
تعدّ لوحة كاتسوشيكا هوكوساي «Katsushika Hokusai» اليابانيّة المطبوعة على الخشب والذّائعة باسم الموجة العظيمة واحدة من أشهر المطبوعات وأكثرها استنساخًا في العالم. وتظهر هذه اللّوحة الشّهيرة على الأكواب، والدّفاتر، والأوشحة، والمظلّات، كما تظهر على لوحة مفاتيح الإيموجي.
ظهرت النّسخة المصغّرة لـ«الموجة العظيمة» أوّل مرّةٍ على لوحة مفاتيح الإيموجي سنة 2015.
لهذه المطبوعة طبعاتٌ مختلفةٌ في العالم تضمّها مجموعاتٌ خاصّةٌ وعامّةٌ. كما توجد نسخةٌ معروضةٌ حاليًّا في متحف مونتريال للفنون الجميلة ممّا دفع بعض الزوّار إلى التّعبير عن دهشتهم من حجمها الصغير على الرّغم من سمعتها الضّخمة، إذ يبلغ عرضها أقلّ من 15 إنش، بينما يبلغ ارتفاعها 10 إنشات (Shocked art fans are all saying the same thing after seeing the original 'Great Wave' painting).
لقد صُمّمت هذه المطبوعة تقريبًا بين 1830 و1832 خلال حقبة إيدو اليابانيّة. تصوّر هذه المطبوعة ثلاثة قوارب تواجه موجةً عاتيةً وهائلةً، فيما يظهر جبل فوجي في الخلفيّة البعيدة. إنّ عنوان هذا العمل هو كاناغاوا أوكي نامي أورا، أو تحت الموجة قبالة كاناغاوا، وهي أوّل مطبوعة من سلسلة «ستّة وثلاثون منظرًا لرؤية جبل فوجي». تندرج هذه المطبوعة ضمن أسلوب وتقليد فنّ الأوكيو-إي «ukiyo-e»، وهو نوعٌ من الفنّ الزخرفيّ اليابانيّ الذي يتألّف من مطبوعاتٍ ولوحاتٍ خشبيّة عادةً ما تصوّر العوامّ (الذين ينتمون إلى طبقاتٍ اجتماعيّةٍ دنيا، مثل الممثّلين والمحظيّات)، فضلًا عن تصويرها المناظر الطّبيعيّة، والنّبات، والحيوانات.
إنّ المنظورات التي تطفو فوق الموضوع، فضلًا عن مستويات الألوان المسطّحة، والتّجسيد الدّقيق والواضح، هي ميزاتٌ شائعةٌ لهذا النّوع الفنّيّ التي تميّزه بعدّه صفةً للجماليّات اليابانيّة التّاريخيّة.
كاتسوشيكا هوكوساي، هطلٌ تحت قمّة الجبل (Sanka hakuu) من سلسلة «ستّة وثلاثون منظرًا لرؤية جبل فوجي» (Fugaku sanjurokkei) (حوالي 1830-1833). مجموعة معهد شيكاغو للفنون.
وُلد هوكوساي عام 1760 في عائلةٍ من الحرفيّين، حيث بدأ الرّسم في سنّ السّادسة بحسب بعض الرّوايات. وفي سنّ الرابعة عشرة تتلمذ على يدي نحّات خشبٍ. وفي سنّ الثّامنة عشرة انضمّ إلى استوديو كاتسوكاوا شونشو «Katsukawa Shunshō»، وهو فنّانٌ عمل بأسلوب الأوكيو-إي مركّزًا على تصوير الممثّلين، والمحظيّات، وغيرها من العوامّ في مدن اليابان.
نُشرت أوّل سلسلةٍ من مطبوعات هوكوساي سنة 1779، وقد صوّرت ممثّلي الكابوكي «Kabuki». ولقد استمرّ هوكوساي في العمل وفق الأسلوب التّقليديّ حتّى أوائل تسعينات القرن الثّامن عشر حيث شرع في تجريب أسلوبٍ جديدٍ. وشمل هذا التّجريب تبنّي الممارسات الفنّيّة الأوروبيّة التي صادفها في النّقوش النّحاسيّة الفرنسيّة والهولنديّة التي تسرّبت إلى البلاد على الرَّغم من سياسة العزلة الوطنيّة الصّارمة التي انتهت في منتصف خمسينات القرن التّاسع عشر.
كاتسوكاوا شونشو، مصارعا سومو من الجماعة الشّرقيّة: كوراتياما يدايو وإيزوميغاوا رينيمون (1775-1785). مجموعة معهد شيكاغو للفنون.
إنّ اسم هوكوساي هو أحد الأسماء التي اشتهر به هذا الفنّان المنحدر من عائلة كاتسوشيكا. ولقد تبنّى في الكثير من الأحيان لقبًا جديدًا كجزءٍ من حياته وممارسته، إذ استخدم ما لا يقلّ عن ثلاثين اسمًا مستعارًا على مدار حياته. ولكنْ لم يكن غريبًا على الفنّانين اليابانيّين في تلك الحقبة استخدام أسماء مختلفةٍ، بيد أنّ كاتسوشيكا بالغ في هذا الاستخدام. وساعد هذا التّغيير في الاسم الباحثين والمؤرّخين على تدوين الحقبات التي مرّت بها حياة الفنان ومسيرته المهنيّة؛ فقد شرع في استخدام اسم «هوكوساي» في مطلع القرن التّاسع عشر تقريبًا، وسيبقى هذا الاسم الأكثر شهرةً له.
امتدّت مسيرة هوكوساي المهنيّة أكثر من سبعين سنةً، وأقلّ ما يُقال عن أعماله الفنّيّة فيها إنّها مذهلةٌ، إذ يُقدّر عددها بما يزيد عن 30,000 عملٍ يشمل اللّوحات، والرّسومات، والمطبوعات. وعلى الرّغم من قدرتنا على تتبّع تاريخ صناعة الفنّ اليابانيّ، ورصد مسار فنّ هوكوساي في جميع أعماله، فإنّ مطبوعته تحت الموجة قبالة كاناغاوا لا تزال تأسر أنظار العالم بعد مرور حوالي قرنين على رسمها.
وإليك ثلاث حقائق غير معروفة عن هذه المطبوعة الشّهيرة.
الصّبغة الزّرقاء البروسيّة أو «Berliner Blau».
الابتكار في اللّون الأزرق
إنّ أحد أكثر العناصر الآسرة في مطبوعة هوكوساي تحت الموجة قبالة كاناغاوا هو الاستخدام الحيويّ والمتنوّع للّون الأزرق. ولعلّنا لا نجد في تدرّجات الأزرق اليوم ما يلفت النّظر، بيدَ أنّ تطوير هذا اللّون كان يمثّل آنذاك طليعة الاكتشافات العلميّة.
حوالي سنة 1705 صنع صانع الأصباغ السّويسريّ يوهان ياكوب ديسباخ «Johann Jacob Diesbach» صبغةً حمراء، إذ استخدم عن طريق الخطأ مركّبًا يحتوي زيتًا سامًّا ابتكره الكيميائيّ الألمانيّ الفاشل يوهان كونراد ديبل «Johann Konrad Dippel» الذي شاركه المختبر لتوفير المال. فكانت النّتيجة غير المقصودة لون أزرق حيويٍّ ومستقرٍّ (بمعنى أنّه لا يتلاشى أو يبهت)، وأطلق عليه لاحقًا اسم الأزرق البروسيّ. فالحقّ لم يكن من الممكن سابقًا تحقيق درجات ألوانٍ مماثلةٍ إلّا من خلال طحن حجر اللّازورد الباهظ الثمن والمستخرج من جبال أفغانستان.
عيّنةٌ من طلاء زيتيٍّ بالأزرق البروسيّ.
أدّت هذه الصّبغة الجديدة إلى نشوء «حمّى زرقاء» اجتاحت أوروبا حيث ظهر هذا اللّون في الملابس، واللّوحات، والجدران؛ كما صُبغت أوراق نبتة الشّاي لمواكبة الموضة، وهو ما كان خطيرًا نظرًا للتّسمّم. ولكنْ لم يصل اللّون إلى الأسواق الآسيويّة إلّا في أوائل القرن التّاسع عشر، عندما طوّر رجل أعمالٍ صينيٍّ نسخةً جديدةً من الوصفة. وعلى الرّغم من أنّ اليابان كانت لديها آنذاك قواعد استيرادٍ صارمةٍ، فسرعان ما ظهرت هذه الصّبغة الزّرقاء في صناعة الطباعة في أوساكا.
كان لإدخال اللّون الازرق آثارٌ كبيرةٌ مماثلةٌ لتلك التي شوهدت في أوروبا، إذ اعتمد الفنّانون هذا اللّون على نطاقٍ واسعٍ، ومنهم هوكوساي. فقد أطلق عليه اليابانيّون اسم بيرو «Bero»، وهو مشتقٌّ من الهولنديّة بيرلينر بلاو «Berliner Blau» التي تعني «أزرق برلين» (كان لدى هولندا ترخيصٌ خاصٌّ للتّجارة عبر ميناء ناغازاكي). وأجرى طاقم الأبحاث في متحف ميتروبوليتون للفنون تحليلًا طيفيًّا لنسخة تحت الموجة قبالة كاناغاوا يضمّها المتحف، فوجدوا أنّ الطّبّاعين لم يعتمدوا اللّون الأزرق الجديد اعتمادًا تامًّا، بل خلطوه بصبغةٍ أكثر تقليديّةً صُنعت من نبات النّيلة التي أعطت لونًا أشدّ قتامةً.
وهكذا استنتج الخبراء بأنّ المسار الأوّل للطّباعة قد تضمّن مزيجًا من الأزرق البروسيّ والنيلة، بينما تضمّن الثّاني وضع اللّون الأزرق البروسيّ الخالص للحصول على تأثيرٍ أدقّ. والنتيجة هي ما نراه اليوم: تموّجٌ ديناميكيٌّ لدرجات اللّون الأزرق في سطح الماء ما ينقل حسّ الحركة.
قالب طباعة (قالب خشبيّ). قالبٌ مخطّطٌ (omohan) لإعادة توليد نسخةٍ حديثةٍ (2017) عن مطبوعة تحت الموجة قبالة كاناغاوا لكاتسوشيكا هوكوساي © أمناء المتحف البريطانيّ.
لم تكن المطبوعة تعدّ «فنًّا» أساسًا
يُعتقد بأنّ عدد نسخ مطبوعة تحت الموجة قبالة كاناغاوا بلغت الألف نسخةٍ. والحقّ لقد طُبع ما يزيد عن 8000 نسخةٍ. ولكن لم تُعدّ هذه المطبوعات والأوكيو-إي عمومًا «فنًّا راقيًا» في اليابان. فقد كانت تُصنع وتباع بأسعارٍ زهيدةٍ، كما كان يُنظر إليها على أنّها سلعةٌ تجاريّةٌ؛ لهذا السّبب لم يُعتنَ في البداية بالعديد من المطبوعات، إذ تعرّض معظمها للتّلف إمّا عمدًا أو مع تقادم الزّمن. ومن بين الآلاف التي طبعت، لا يزال بضع مئات موجودًا. وما يجعل هذه المطبوعات أكثر ندرةً هو أنّ القوالب الخشبيّة كانت تُستهلك عادةً حتّى التّلف، ممّا يعني أنّ الطّبعات اللّاحقة تظهر عليها علامات التّآكل والضّرر.
ولم تتغيّر هذه النّظرة غير الفنّيّة إلّا عندما فتحت اليابان العديد من موانئها أمام البلدان الأخرى عام 1859، فتدفّقت موجةٌ (على سبيل التّورية) من الأوكيو-إي والأشكال الفنّيّة اليابانيّة الأخرى عبر العالم الذي انبهر بهذه الأعمال، وما لبثت أنْ أصبحت تذكارًا يابانيًّا رائجًا لتصديره ممًا أدّى إلى تجدّد الاهتمام بهذه الصّناعة. وعلى الرّغم من عدّ المطبوعات الخشبيّة شكلًا فنّيًّا بدائيًّا، بيد أنّ الغرب اعتبر جماليّتها فنًّا يابانيًّا أصيلًا، وهو مفهوم لا يزال سائدًا حتّى اليوم.
ولم ينتهِ الهوس بفنّ الأوكيو-إي، وتحديدًا بمطبوعة تحت الموجة قبالة كاناغاوا لهوكوساي. فقد بيعت هذه السّنة نسخةٌ ممتازةٌ من المطبوعة في مزادٍ في دار كريستيز نيويورك بمبلغ 2.76 مليون دولار، وهو يتجاوز تمامًا سعرها الأصليّ الذي كان يعادل وعاءً متواضعًا من المعكرونة (KATSUSHIKA HOKUSAI (1760-1849), Kanagawa oki nami ura (Under the well of the Great Wave off Kanagawa) [“Great Wave”] | Christie's).
فينسنت فان غوخ، ليلة النّجوم، مجموعة متحف الفنّ الحديث، نيويورك.
الأثر العالميّ للمطبوعة
كان تدفّق الفنّ الياباني والحرف اليديويّة والموادّ الثّقافيّة الأخرى إلى أوروبا مؤثرًا جدًّا في القرن التّاسع عشر، ممّا أدّى إلى صعود مصطلح «La Japonaise» [اليابانيّة] أو «Japonisme» [اليابانويّة] وهما مصطلحان فرنسيّان يشيران إلى الهوس بكلّ ما هو يابانيّ في العالم الغربيّ. ويظهر هذا التّأثير في أعمال الفنّانين الانطباعيّين، إذ أدخل كلود مونيه «Claude Monet» (Claude Monet | Artnet) الزّيّ اليابانيّ التّقليديّ والمروحة اليابانيّة في لوحةٍ لزوجته عنوانها كاميل مونيه في الزّيّ اليابانيّ (1876). وبعد انتقاله إلى جيفيرني سنة 1883، بنى جسرًا يابانيًّا صغيرًا في حديقته، حيث بات عنصرًا أساسيًّا في العديد من لوحاته.
كذلك ابتكرت ماري كاسات (Mary Cassatt | Artnet) - مستلهمةً من النّقوشات الخشبيّة اليابانيّة - سلسلةً من النّقوش التي تستخدم درجاتٍ متشابهةٍ من الألوان، والخطوط، والمنظورات، كما في عملها عناق الأمّ (1890-1891).
كلود مونيه، اليابانيّة (كاميل مونيه في الزّيّ اليابانيّ) (1876). مجموعة متحف الفنون الجميلة، بوسطن.
ربطت الدّراسات الحديثة عن مطبوعة هوكوساي تحت الموجة قبالة كاناغاوا وتأثيرها بعملٍ فنّيٍّ آخر ينافسها على لقب اللّوحة الأكثر شهرةً في العالم، عنيتُ ليلة النّجوم لفينسنت فان غوخ (1889). فقد كان فان غوخ من هواة جمع المطبوعات اليابانيّة، بل كان من المعجبين بها. وفي هذا السّياق نشر مارتن بايلي مقالًا سنة 2018، وهو متخصّصٌ في أعمال فان غوخ ومراسل صحيفة آرت نيوزبيبر، وربط فيه بين العملين الفنّيّين البارزين (How Van Gogh's Starry Night was inspired by Hokusai’s Great Wave - The Art Newspaper - International art news and events).
يستشهد بايلي برسائل كتبها الفنّان إلى أخيه ثيو («أمواج هوكوساي مخالبُ، والقارب عالقٌ فيها، يمكنك الشّعور بذلك»)، ثمّ ينتقل إلى الكلام عن أوجه التّشابه في الاستخدام الفنّيّ للّون الأزرق والأشكال الدّوّامة. ويشير بايلي إلى أنّ اطّلاع فان غوخ على فنّان الأوكيو-إي وعمله شكّل مصدر إلهامٍ له، ولعلّه أدّى دورًا في إنجازه لوحة ليلة النّجوم.