لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

single

زنابق الماء في جيفرني © وكالة غيتي للصور

 

أرتسبر

ترجمة: أنطونيوس نادر

 

في عام 1883، استأجر كلود مونيه منزلًا في الريف المحيط بباريس. مفتونًا بهذا البيت الجديد الذي يقع في منطقة جيفرني، قرر شراء العقار. بعد بضع سنوات، اشترى قطعة أرض ثانية، تبعد أميالًا عن منزله وتمتد عبر مجموعة من مسارات السكك الحديدية، وشرع هناك في إنشاء بركة صغيرة وتحويلها إلى حديقة مائية رائعة مملوءة بزنابق الماء المستوردة، مع جسر خشبي على الطراز الياباني. 

لقد غيرت حديقة مونيه في جيفرني مسار تاريخ الفن في القرن العشرين تغييرًا جذريًا. وفي هذه المقالة، نرصد البدايات المتواضعة لهذه البركة الصغيرة من أجل الإجابة على سبب تميّز لوحات مونيه لزنابق الماء.

 

اللوحات الأكثر شهرة في القرن العشرين

ربما تكون أكثر اللوحات شهرة وجاذبية في القرن العشرين، سلسلة كلود مونيه «زنابق الماء» (1897-1926). فلماذا تعد هذه السلسلة أيقونية للغاية؟ لعل الإجابة الأقرب إلى هذا السؤال تكمن في التنوع الفريد الذي تتميز به اللوحات وعددها الإجمالي 250 لوحة. وقد يكمن سر جمالها في العظمة المطلقة لأبعاد القماش الذي استخدمه مونيه لرسم لوحاته، تمامًا مثل التصاميم الضخمة في متحف أورانجري في باريس. ويرد بعض المتخصصين السبب الحقيقي لجمال «زنابق الماء» الآسر إلى التفاعل العجيب بين الألوان المستخدمة.

تعتبر هذه السلسلة أفضل أعمال مونيه الانطباعية، وقد رسمها في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته. وانطلاقًا مما سبق، ترمي أرتسبر في هـذه المقالة إلى سبر أغوار جمال هذه السلسلة التي أصبحت راسخة للغاية في أذهاننا.

 

عناية دقيقة

تتخذ لوحات مونيه للمناظر الطبيعية من «الطبيعة» موضوعًا لها وتكشف عن دلالتها الجمالية الأكثر روعة. ومع ذلك، لم تكن حديقة مونيه حديقةً طبيعيةً؛ فقد بذل جهدًا استثنائيًّا، مخصصًا الكثير من الوقت والمال لصيانة الموقع وتوسيع البركة وأرضية الحديقة. مأخوذًا بشغفه بهذه الحديقة، وظَّف مونيه عمالًا ستّة حولوا المروج البرية إلى حديقة منسقة تكتنفها أشجار الصفصاف، والسوسن، والزنابق المائية المستوردة خصيصًا من اليابان، معترفًا بأنَّ «هذه المناظر الطبيعية المائية والانعكاسات أصبحت هوسًا». وبالرغم من إدراكه لشدة هوسه، فإنَّ هذه الحقيقة لم تمنعه من مواصلة شغفه في رسم لوحاته.

The home of Giverny

منزل جيفرني © giverny-impression.com

 

إذن لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية؟

يمكننا هنا تحديد ثلاثة أسباب.

أولًا، تُبرِز هذه اللوحات موهبة مونيه الفذة في الرسم في الهواء الطلق (en plein air)، ويقصد بهذه العبارة  عملية الرسم في مكان مفتوح. تختلف هذه الطريقة عن الرسم في الاستوديو، أو ممارسات الرسم الأكاديمية التقليدية التي قد تخلق مظهرًا محددًا مسبقًا. وقد بدأت في أوائل القرن التاسع عشر، وأخذت تنتشر على نحو واسع مع اختراع الأقمشة المحمولة ومساند اللوحات. في بدايته، اقترن الرسم في الهواء الطلق على نحو خاص بمدرسة باربيزون الفرنسية في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ووصل تأثيره إلى فنانين مثل مونيه الذي اكتشفوا أسلوبًا جديدًا للرسم كان الضوء الطبيعي جوهره. وبالفعل، استطاع مونيه بتأثير الفن في الهواء الطلق أن يرصد التفاصيل المتغيرة للطقس والضوء بشكل أفضل.

العظمة المطلقة للوحات مونيه في أحجامها

يبدو أن التنوع الفريد في أحجام لوحات السلسة هو السبب الثاني الذي يجعل منها مميزة للغاية. فحجم التركيبات المتباينة، التي اختارها مونيه للوحاته، مدعاة للملاحظة؛ إذ غالبًا ما رسم على أقمشة يتخطَّى طولها ستة أقدام ونصف وعرضها نحو عشرين قدمًا. وبمعزل عن هذه الأبعاد الشاسعة، كان حجم لوحات مونيه لزنابق الماء هو الأكثر ضخامة. وما لا شك فيه أن سلسلة «زنابق الماء» استطاعت أن تُعبِّر أبلغ تعبير عن تنوع الموضوع وعمقه، وهي لهذا السبب تعد إنجازًا ضخمًا.

الاستخدام العجيب للألوان

أخيرًا، يعود سبب الافتتان بلوحات زنابق الماء إلى استخدام مونيه الابداعي للألوان. فقد تميَّز مونيه بنظرة لا مثيل لها تمثَّلت في قدرته على الجمع بين الألوان التكميلية معًا.

بدءًا من عام 1903، أصبح تركيز مونيه مُنصبًّا على تصوير سطح الماء، وكان هذا الاهتمام الشرارة التي أطلقت العنان لأسلوبه الانطباعي مُخلِّفًا أكثر الأعمال الفنية شهرة في التاريخ؛ فاستخدامه للأصفر والوردي والخزامي والأخضر والأزرق والألوان التكميلية الأخرى، في السلسلة، يصور بعناية الإضاءة الحقيقية لـحديقة جيفرني. أما في تصوير المشاهد المظلمة، فقد حرص مونيه على عدم استخدام اللون الأسود؛ إذ شعر بأنه يعطي تأثيرًا باهتًا. وعوضًا عن ذلك، استخدم ألوانًا متناقضة متابينة لخلق الظِّلال.

ونظرًا لاستغنائه عن الهيكل الشائع ورفضه التضمين التقليدي لخط الأفق والسماء والأرض، استطاع مونيه تركيز نظره بشكل مباشر على سطح البركة وانعكاساتها. وحاول في بعض لوحاته إظهار حافة البركة بهدف جعل المشاهد حاضرًا في فضاء المشهد. وكذلك حُذِفَت القرائن التقليدية من عين الفنان والمشاهد (أعني نقاط التبئير، كخط الأفق). ويؤدي وميض الضوء في الماء وتداخل انعكاسات السحب وأوراق الشجر في الجزء الأعلى من اللوحات إلى إضفاء نوع من الغموض؛ بحيث لا يمكن تمييز بين الجزء الأمامي والخلفي على نحو واضح. وبالمقارنة مع الصور اللاحقة للبركة، فإن هذه اللوحات تبدو طبيعية تمامًا من حيث اللون والأسلوب. عرض مونيه ثمانية وأربعين لوحةً من هذه السلسلة في معرض ناجح للغاية في غاليري دوراند رويل في باريس في مايو 1909. وتعليقًا على هذه اللوحات، كتب أحد النقاد: «شعرت بأني محاط بأحاسيس مغرية غامضة». يمكنكم إلقاء نظرة على هذه السلسلة ومعاينة الألوان المستخدمة، والتفكير بما تُشعركم به «زنابق الماء».

Monet's paintings of the waterlilies

كلود مونيه، زنابق الماء، 1906 © ويكيبيديا

 

السلسلة اللاحقة من لوحات مونيه

لم تكن سنوات مونيه اللاحقة وردية. فبعد معرض ناجح في عام 1909، خفَّ نشاطه واندفاعه إلى الرسم. وبالفعل، عرف الفنان في تلك الفترة من حياته مشقة شخصية كبيرة. فقد غمرت الفيضانات في عام 1910 بركة زنابق الماء، ثم توفت زوجته، أليس هوشيدي، في عام 1911، وكذلك ابنه جان، في عام 1914. وفي عام 1912، شُخِّص بمرض المياه البيضاء، وظلَّ بقية حياته يعاني من ضعف البصر. وزادت الحرب العالمية الأولى من ثقل الأحداث التي عاشها مونيه؛ فمنذ أن اندلعت الحرب، غادر معظم أفراد عائلته وكذلك أصدقائه جيفرني. وجديرٌ بالذكر ما كان يكرره الفنان عن تلك الفترة، قائلًا إنَّ لوحاته ساعدته في إلهائه عن أنباء الحرب المروعة.

Monet's studio

استوديو مونيه © متحف مارموتان

 

في تلك الفترة بالفعل، شرع مونيه في بناء استوديو جديد ضخم في عام 1915. لقد كان تصميمه  مُخصَّصًا للاستخدام العملي لا الأغراض الجمالية، بأرضية خرسانية وسقف زجاجي. وقد أعرب مونيه عن أسفه، لأنه من أجل أعماله اضطر إلى هذا الاستديو القبيح. ومنذ ذلك الحين، تميزت حياة مونيه بمرحلتين: في الصيف، كان يرسم في الهواء الطلق على لوحات صغيرة، وفي الشتاء ينسحب إلى الاستوديو لمراجعة اللوحات وتعديلها. كما كان يرسم عدة لوحات في وقت متزامن؛ حيث كان يعاين لوحاته من كثب، مُنتقلًا من لوحة إلى أخرى. تُعرف تلك اللوحات باسم «الزخارف الكبرى» وهو الاسم الذي أطلقه مونيه على سلسلة أعماله الأخيرة. لماذا قضى مونيه وقتًا طويلًا في تحليل لوحاته، مهووسًا بتفاصيلها، ومعيدًا رسم زنابقه المائية الشهيرة؟ لن نعرف أبدًا، بيد أننا نستطيع بالتأكيد أن نُقدِّر نتيجة هذا الافتتان.

 

فخر وطني

Monet's paintings of expansive landscape scenes

 لوحات مونيه معروضة على لوحات واسعة © Musée de l'Orangerie

 

في نهاية الحرب، قرر مونيه التبرع بلوحتين لفرنسا احتفالًا بانتصارها، إلا أن صديقه العزيز جورج كليمنصو -الذي كان رئيسًا لوزراء فرنسا من عام 1906 حتى عام 1909، ومن عام 1917 حتى عام 1920- أقنعه بإهداء أكثر من لوحتين. في النهاية، حصلت الدولة على 22 لوحة، شكَّلت ثماني تركيبات. كانت الهدية مشروطة بحق مونيه في الموافقة على مكان تركيب اللوحات وخطة عرضها. بعد الكثير من النقاش، اتفق مونيه والمسؤولين الحكوميين على إنشاء معرض دائم في أورناجري، وتحديدًا في حدائق التويلري في باريس. وتم افتتاح المعرض للجمهور في عام 1927، في العام التالي لوفاة مونيه.

One of Monet's paintings

إحدى لوحات مونيه، (بركة زنبق الماء 1919)، المعروضة في المزاد © دار سوذبيز

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي

featured
Sart
Sart
·29-04-2024

برجوازيو كاليه