ما الغاية من الفن؟

single

جون آرمسترونغ - ترجمة: محمد السعيد

 

على مدى عقود، كانت الثقافة الغربية مترددةً حيال تحديد قيمة جوهرية أو غاية للفن، حتى وإن استمرت في تقديره. ومع أننا لا نزال غير مرتاحين في قول هذا، فإن تقديرنا للفن لا بد أن له أساس متين: بأنه خير لنا. وإن لم نؤمن بهذا، فإن التزامنا بالفن -بالمال والوقت والدراسة- لا معنى له. كيف يمكن للفن أن يكون خيرًا لنا؟ إن الإجابة، كما أرى، هي أن الفن أداة شفائية؛ إذ تكمن قيمته في قدرته على تحفيزنا وتعزيتنا وإرشادنا لتحقيق أحسن نسخة من أنفسنا، وفي مساعدتنا لعيش حياة أكثر ازدهارًا، على الصعيدين الفردي والجماعي.

في أيامنا هذه، من المفهوم مقاومة فكرة كهذه؛ نظرًا إلى أن «العلاج» أصبح مرتبطًا بطرق شفائية مشكوك فيها، أو على الأقل ليست ذات نفع كبير لتحسين الصحة النفسية. القول بأن الفن شفائي لا يعني أنه يتشارك مع العلاج في طرقه ولكن مع مراميه: مساعدتنا في التكيُّف، على نحو أفضل، مع الوجود. حتى وإن بدت الطرق الشائعة في التفكير بالفن متجاهلةً أو رافضةً لهذا الهدف، إن مطلبها النهائي شفائي أيضًا.

عند البعض، فإن التأثير الصادم للفن يبقى مصدرًا قويًّا لجاذبيته المعاصرة. نحن مدركون، فرديًّا وجماعيًّا، أننا ربما أصبحنا مستكينين؛ لكن يمكن للفن أن يكون قيِّمًا عندما يُربكنا أو يذهلنا. إننا، بالذات، تحت تهديد نسيان أن بعض المعايير مصطنعة. مثلًا، كان من المُسلَّم به ألا يُسمح للنساء بالمشاركة في الانتخابات، وبأن دراسة اللغة اليونانية القديمة يجب أن تسود في المدارس الإنجليزية. ومن السهل الآن رؤية أن هذه الإجراءات لم تكن حتمية؛ لقد كانت قابلة للتغيير والتحسين.

حينما رسم سباستيان إيراسوريز علامة الدولار على خطوط الطرق في منهاتن، كانت فكرته حثُّ المارة في إعادة التفكير بدور المال في الحياة اليومية؛ لهزِّ تمسكنا الغافل بالتجارة، ولإلهامنا -ربما- فكرة أكثر عدلًا تجاه خلق الثروة وتوزيعها (لربما يخطئ المرء تمامًا في فهم هذا الابتكار إن أُخذ على أنه تحفيز للعمل بجد ومراكمة الأموال). لكن هذه المقاربة الصادمة تعتمد على افتراض شفائي. قد تكون للصدمة قيمة إن استحثتْ حالةً نفسية أرقى وأكثر تأهبًا للتعقيدات والفوارق وأكثر تقبُّلًا للشك؛ فهدفها البعيد تحسينُ الحالة النفسية.

مع ذلك، فإن تأثير الصدمة ضئيل عندما نسعى لموازنة أمزجتنا وتصوراتنا. من الممكن أن يشلنا الشك والقلق فنحتاج إلى طمأنة، وربما نتيه في متاهات التعقيد فنحتاج إلى البساطة، وربما نتشاءم تشاؤمًا لا نهاية له فنحتاج إلى التشجيع. إن الصدمة ترضي مؤيديها في افتراضها أن المشكلة الكبرى هي التغاضي. لكن، في النهاية، هي رد محدود تجاه فقر التفكير، أو ردود الفعل الانسحابية أو الشحيحة، أو ضيق النفس.

طريقة أخرى، لمعالجة هذه المثالب، أن نسعى إلى فهم الماضي فهمًا عميقًا. تقدم لوحة شفاء المجنون (The Healing of the Madman)، لفيتوريه كارباتشو، سجلًّا بصريًّا لجسر ريالتو -الذي كان مصنوعًا من الخشب آنذاك- قبل إعادة بناءه، لهذا فهي تعلمنا الكثير حول معمار البندقية في عام 1500 تقريبًا. إنها، أيضًا، بيان حول المواكب الشعائرية، وحول الدور المدني البارز للدين (وتقاطعه مع التجارة)، وما ارتداه النبلاء ومجدفو الزوارق، وكيف صفف الناس العاديون شعورهم، وغيره الكثير. ونرى، أيضًا، كيف رأى الرسام الماضي؛ هذا الطقس المرسوم حدث قبل رسم اللوحة بمئة سنة. نجدُ أنفسنا على قليل من الدراية في اقتصاديات الفن، فهذه الصورة جزء من سلسلة تحت رعاية أخوية تجارية ثرية. في عبارات أقل أكاديمية: إنَّ الغنى الذي يحضر فيه الماضي بصريًّا يخولنا لتخيل قعقعة الجسر الخشبي، والتهادي بين القنوات المائية في زورق مسقف، والعيش في مجتمع يكون فيه الإيمان بالمعجزات جزءًا من أيدولوجية الدولة.

لهذه المعلومات التاريخية أهمية لعدة أسباب: لأننا نريد أن نفهم أسلافنا فهمًا أكبر ونعرف كيف عاشوا، ولأننا نرجو أن نتبصر في حال الأمم والثقافات السالفة. لكن هذه الجهود تصب، في النهاية، في فكرة واحدة: بأن لقاءنا بالتاريخ، كما يظهر في الفن، من الممكن أن يكون مفيدًا. بعبارة أخرى، إن المقاربة التاريخية لا تُناقض فكرة أن قيمة الفن، في النهاية، شفائية. ولهذا ظهر التهكُّم (بعبارة ألطف) تجاه المقاومة الأكاديمية لفكرة الفائدة الشفائية للفن. فسعة المعرفة مفيدة عندما تكون وسيلة لغاية، أيْ تسليط الضوء على احتياجاتنا الحالية.

 

نافذة مطلة على ماضي البندقية: شفاء المجنون لكارباتشو

مقاربة أخرى ترى الفن بوصفه سليلًا لاكتشافات وإبداعات تمثيل الواقع. في هذه الطريقة شبه العلمية في تقييم الفن، نُقدِّر الفنانين الذين ابتدعوا أساليب جديدة مثلما نحتفي بالمكتشفين والمبدعين في التاريخ («من الذي اكتشف أميركا؟» «من الذي اخترع أول محرك بخاري؟»). من هذه الناحية، ليوناردو دافينشي مهم؛ لكونه من أوائل من استخدموا السفوماتو (sfumato)، وهو أسلوب فني يُبرِز الأشكال دون تحديدها.

وبالمثل، لوحة جبل سانت فيكتوار لبول سيزان من الأعمال الأولى الأصيلة التي أبرزت المساحة المسطحة للكانفس. في لوحته للجبل كما يُرى من لي لوف، القريبة من أكس-أون-بروفانس، يستخدم سيزان الكثير من الطلاء ليرمز إلى الشجيرات؛ حتى وإن كانت عن كثب لطخات ملونة تُشكِّل نمطًا مجردًا (وهذا واضح عندما يُغطى النصف العلوي من اللوحة). الذي أمامنا ليس وهمًا ثلاثي الأبعاد وحسب، بل اعترافًا بأنه ثنائي الأبعاد أيضًا.

يجد الخبراء المتحمسون مقاربة سيزان مألوفةً حتى إنه ليبدو من المحرج أن نشير إلى أن أسلوبه لا يفسر إلا القليل حول قيمة اللوحة بالنسبة لنا. إذ يمكن أن يُقيَّم إبداع ما ظاهريًّا من ناحية الفوائد الجلية التي يقدمها فقط. ولا تكشف النقاشات الفنية إلا عن التغيُّرات في طرق التصميم أو الإنتاج. فالطرق الجديدة ليست جيدة بحدِّ ذاتها، بل إنها جيدة إن كان لدينا سبب للاعتقاد بأنها أفضل من القديمة. ولهذا، فالنظرة الفنية للفن تمتلك افتراضًا ضمنيًّا: إنها تسلم جدلًا أن الأعمال المعنية مفيدة لنا. لا تفسر سبب هذا، ولكنها، كما في المقاربة التاريخية، تسلم بهذا. والتطورات الفنية ذات قيمة طالما كانت تجيء بمناهل شفائية جديدة أو محسنة إلى الشكل الفني.

إن اتفق المرء مع هيجل في أن الفن هو التعبير الحسي للفكرة (أو المثل)؛ يبقى خاضعًا لسؤال لماذا تعبير كهذا قيم؟ وما طبيعة مشكلاتنا أو تطلعاتنا حتى يغدو الفن شيئًا نحتاجه؟

الأطروحة الشفائية ليست ببساطة فكرة أخرى عن قيمة الفن. إنها تهتم بالموضوع الوحيد التي تكون فيها هذه القيمة قابلة للتفسير: قدرة الفن على تحسين حياتنا. يمكن للفن أن يكون:

ترياقًا للذاكرة الضعيفة: يخلد الفن ثمرات التجارب. إنه آلة تحافظ على أفكارنا في أحسن حال، وتجعلها مُتاحة للعموم.

معين الأمل: يُبقي الفن الأمور السارة والمواسية قريبة، بحيث يحصننا من اليأس.

ينبوع حزن نبيل: يُذكرنا الفن أنه ثمة مكان مشروع للحزن في الحياة الطيبة؛ لكي نرى أن ألمنا من مقومات أي وجود نبيل. 

عامل موازنة: يكتب الفن بوضوح غير عادي جوهر محامدنا؛ يعرضها أمامنا ليساعدنا في إعادة موازنة طبائعنا، وليهدينا إلى أفضل إمكانياتنا.

مرشدًا لمعرفة الذات: يمكن أن يساعدنا الفن في تحديد المهم في الحياة الذي لا يُستطاع وصفه في كلمات، فالفن البصري يساعدنا في فهم ذواتنا.

مرشدًا لتوسيع التجارب: الفن تجميعة بالغة التعقيد للتجربة، معروضة أمامنا في أشكال مرتبة. نستطيع سماع أصوات الثقافات الأخرى، موسعين بذلك أفكارنا عن أنفسنا وعن العالم. في البداية، يبدو الفن ما يصنعه «الآخر» فقط؛ ولكننا نكتشف أنه يحتوي أفكارًا نستطيع تبنيها بطرق تُثرينا.

أداة تنقية: ينقذنا الفن من الازدراء الاعتيادي لما حولنا، فنستعيد إحساسنا وننظر إلى المألوف في طرق جديدة. ولأجل أن نتذكر أن الجدِّة والإثارة ليستا الحل الوحيد.

فلنتأمل، مثلًا، لوحة غوته بجانب نافذة شقته في روما لتيشباين. نرى الرجل العظيم من الخلف: نعله ينسلُّ بعفوية من قدمه حينما يطل إلى الخارج، وتتباين برودة الغرفة الخافتة مع الشارع المشمس تباينًا قويًا. لربما يرى البعض هذه اللوحة كمحاولة لتخليد الدروس المستفادة في العطلات. بعيدًا عن البيت والعمل، في الجنوب الدافئ؛ تغير غوته (ككثير من المسافرين) تغيرًا طفيفًا، فأصبح نسخةً -أحسن بعض الشيء-من ذاته. تحاول الرسمة تخليد النسخة الجيدة للذات، وجعلها حالةً دائمةً ومتأهبةً للانفتاح حينما يعود المرء لمحيطه المألوف. ليست الفكرة استحضار أن روما كانت مشوقة بقدر ما تُبرز من يكونه الشخص هناك. لا يستطيع غوته أن يحمل مناخ إيطاليا إلى فايمار؛ ما يستطيع فعله هو أن يحتضن الأفكار في جوهره والحاجات التي اكتسبها أثناء رحلته. ومن المُخيِّب أن يجد المرء هذه الصور على جدران بيت إيطالي في حي تراستيفيري، عوضًا عن محطات المترو في المدن؛ حيث هناك حاجة أكبر لما تثيره من تأمُّل.

 

Tischbein depicts Goethe in his Roman apartment.

تيشباين يرسم غوته في شقته في روما

 

في لوحة حافة صخرية على الساحل البحري، يستخدم كاسبر ديفيد فريدريك تشكيلًا صخريًّا ساحرًا مُسنَّنًا، وساحلًا وافرًا منبسطًا، وأفقًا برَّاقًا، وسُحبًا بعيدةً، وسماءً باهتةً؛ ليخلق مزاجًا معينًا. من المحتمل أن نتخيل أننا نتمشى في ساعات السَّحر، بعد ليلة مؤرقة، على رأس بحري أجرد، نائين عن أي صحبة بشرية، ووحيدين مع القوى البسيطة للطبيعة. الجزء السفلي من الأفق خاو وبلا شكل، فضاء فضي نقي؛ ولكن الغيوم من فوقه تحبس النور في جوفها، وتمرره على نحو عشوائي وعابر، لا مبالية بمشاكلنا.

صورة الطبيعة ليست لها علاقة مباشرة بالعلاقات الإنسانية أو ضغوط ومحن الحياة اليومية. وظيفتها أن تهبنا حالة شعورية نكون فيها مدركين إدراكًا تامًا ضخامة الزمان والمكان. إن اللوحة كئيبة، وليست حزينة؛ هادئة ولكن ليست باعثةً على اليأس. وفي تلك الحالة النفسية -بعبارة أكثر رومانسية: تلك الحالة الروحية- نجد أنفسنا، كما في غالب الأعمال الفنية، مسلحين على نحو أفضل لنتعامل مع حزننا الشخصي الشديد العنيد.

 

 

تثير لوحة حافة صخرية على الساحل البحري لفريدريك ضخامة الزمان والمكان فكرة أن قيمة الفن يجب أن تُفهم بمنطق شفائي ليست جديدة. في الحقيقة، إنها أكثر الطرق ديمومة في التفكير حول الفن، حيث لها جذور في تأمُّلات أرسطو الفلسفية حول الشعر والدراما. في فن الشعر، يناقش أرسطو أن المأساة يمكن أن تسمو بتجربتنا للخوف والشفقة؛ وهما شعوران يساعدان في تشكيل تجربتنا للحياة. الإلماعة الكبرى هي بأن مهمة الفن هي مساعدتنا في الازدهار، وفي أن نكون «فُضلاء»، بالمعنى الذي أراده أرسطو من الكلمة: أي أن نكون بارعين في العيش، حتى في الظروف الصعبة.

كان فهم الفن مُعطَّلًا في العقود الماضية. ولكن أعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة المناسبة للتفكير حول قيمته؛ فالمقاربات الأخرى -كما رأينا- يجب أن تفترضها حتى حينما ترفضها. واعتبار الفن من وجهة نظر شفائية لا يعني أن نتخلى عن الأصالة بل أن نتقبَّلها، من أجل إعادة الفن إلى مركز الثقافة والحياة الحديثة.

 

المصدر:

جون أرمسترونج

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي

featured
Sart
Sart
·29-04-2024

برجوازيو كاليه