ترجمة: سها السباعي
في مدينة كاليه الفرنسية المطلة على القنال الإنجليزي، ينتصب عملٌ نحتيٌّ فريد للنحّات الفرنسي أوجست رودان (1840 –1917) يجسد ستة أشخاص يقفون في أوضاعٍ مختلفة، على نفس المستوى، لا يعلو أحدهم على الآخرين، ينظر كلٌّ منهم في اتجاه. جميعهم يرتدون ثيابًا متشابه ويعبرون عن انفعالات متباينة. أخرج رودان هذا العمل الرائع بعد أن كلفه مجلس مدينة كاليه في نهايات القرن التاسع عشر بعمل نصب يخلد ذكر سكان المدينة، أبطال حرب المئة عام، ويكون رمزًا للشخصية الوطنية الفرنسي عرف هذا العمل باسم برجوازيو كاليه (Les Bourgeois de Calais).
استوحى رودان فكرة العمل من تاريخ المدينة، وبالتحديد من حادثة وقعت عام 1347 في بدايات حرب المئة عام بين انجلترا وفرنسا، بعد أن فرض الملك الإنجليزي إدوارد الثالث حصارًا حول المدينة لمدة أحد عشر شهرًا. وبعد أن كاد سكانها يهلكون جوعًا، أرسل الملك إليهم من يخبرهم أنه سوف يقتلهم جميعًا إلا إذا سلم ستة من أغنى وأبرز مواطنيهم أنفسهم إليه، ليأتوا إلى مخيمه حفاة الأقدام، حاسري الرؤوس، عراةً إلا مما يستر أجسادهم، يحيط كل منهم عنقه بحبلٍ للشنق، حاملين في أيديهم مفاتيح المدينة.
بعد أن تُليَت رسالة الملك على مسامع السكان في سوق المدينة، انهار الجميع في يأس وعلت أصوات النحيب. وفي تلك اللحظة التي أيقن الجميع أنها النهاية، تقدم أغنى أغنياء المدينة وأعلاهم مكانةً وتطوع ليكون أول الستة، وتلاه آخر ثم ثالث ممن انطبق عليهم شرط الملك حتى أكملوا العدد المطلوب. ثم تجردوا من ملابسهم الفاخرة ما عدا قمصانهم وسراويلهم الداخلية، ووضعوا الحبال حول أعناقهم، وتقدموا في اتجاه الخروج من مدينتهم المنكوبة. وعلى الرغم من البداية المنذرة بالسوء، إلا أن القدر كان رحيمًا بالأبطال الستة. فبعد أن كان إدوارد الثالث مصرًّا على إعدامهم، تدخلت زوجته الملكة للإبقاء على حياتهم، وأقنعت الملك أن قتلهم سيكون نذير شؤم على حياة طفلهما الذي لم يخرج بعد إلى الحياة.
وصف الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه – الذي عمل سكرتيرًا لرودان لعدة سنوات - في إحدى مقالاته رؤية المثال الفرنسي العظيم لهذه القصة، وانفعاله بها، مما جعل عمله النحتي يخرج على هذه الصورة:
"استشعر رودان على الفور أن هناك لحظة في هذه القصة حين حدث شيء في غاية البهاء، شيء خارج حدود الزمان والمكان، شيء بسيط لكنه عظيم. لقد ركز كل تفكيره في لحظة المغادرة. رأى كيف بدأ الرجال رحلتهم، شعر بإحساس كل منهم وبنبضاته الأخيرة التي يودع بها حياته الماضية، وأدرك كيف أن كلاًّ منهم وقف هناك، مستعدًّا ليقدم هذه الحياة فداءً للمدينة القديمة. ستة رجال وقفوا أمامه، لا يشبه أحدًا منهم الآخر".
لكي تتمكن كمشاهد من رؤية العمل جيدًا، يجب أن تدور حوله من جميع الجهات، لكي تدرك جميع تفصيلاته بشكل كليّ. ترى أن رودان قد وضع التماثيل الستة على قاعدة واحدة، لم يضعهم في شكل هرمي، لم يقدم أحدًا منهم على الآخر، لم يميز أحدهم برفعه على قاعدة منفردة عن مستوى الآخرين. نستشعر من هذا أنه أراد أن يبين أهمية كل منهم ويؤكد على تفرد ايماءاتهم وتعبيرات وجوههم ووضعية وقوفهم، وترجم في لغة جسديةٍ معبرة مشاعرهم المتباينة وأحاسيسهم المركبة.
عندما ننظر إلى هذا العمل ندرك أن رودان قد اختار أن يجسد الرجال الستة في اللحظة التي أيقنوا فيها أنهم ذاهبون إلى الموت، أظهر ضعفهم وصراعهم الداخلي مع أنفسهم في مواجهة قدرهم المحتوم. ندرك أنه أرادنا أن نرى مشاعرهم كمجموعة من البشر؛ مشاعر تتراوح بين التردد، الألم، الشك، الإيمان، اليأس والعزيمة.
يظهر على كل شخصية من شخصيات رودان انفعاله الخاص بالقرار الذي اتخذه بالانضمام للمجموعة، لا يقيد أحدهم نفسه بالصيغة التقليدية للبطولة، فلا شموخ ولا كبرياء. يقف أكبرهم سنًا وأعلاهم شأنًا، وهو أول المتطوعين، وقد أطرق رأسه في تسليم، يبدو عليه التردد بدلاً من أن يأخذ مكانه في المقدمة كقائد. إلى جواره يقف آخر، وقد نظر إلى الأمام في ثبات، وأطبق فكيه في صرامة. ثالث المتطوعين يقف خلف أولهم وقد رفع ذراعه نحوه ناظرًا إليه كأنما يستمد منه العون. شقيقه الأصغر وهو رابعهم قد أشاح بوجهه جانباً رافعًا كفه كما لو كان يخفي ما يظهر على وجهه من انفعال، فاغرًا فاه كأنما ينطق بكلماتٍ أخيرة. الخامس وهو أصغرهم سنًا، ذراعاه ممدودتان وشفتاه منفرجتان كأنما يتشكك في مدى صواب القرار الذي اتخذوه. السادس يخطو وقد أحنى ظهره ودفن رأسه بين كفيه الكبيرتين في صمتٍ يائس. يقول رودان:
"نظمتُهم كحبات العقد، واحدًا خلف الآخر، بسبب تردد صراعهم الداخلي الأخير، والذي نشأ من حيرتهم بين تفانيهم من أجل قضيتهم السامية، وخوفهم من الموت. إن كلاً منهم متوحدٌ مع ضميره، لا يزالون يتساءلون إذا كانت لديهم القوة الكافية لإتمام تضحيتهم العظمى".
إذن، على الرغم من تجمعهم لهدف واحد، وتوجههم في طريق واحد، إلا أن كلاً منهم ينظر في اتجاه مختلف، كما لو كان يسير في طريق خاص به، بدا وكأن لكل منهم "أجندته" الخاصة، واستجابته المختلفة للموقف الذي نشعر بقسوته عليهم، أرواحهم النبيلة تدفع أجسادهم النحيلة إلى الأمام في وهن سببه ألم الجوع وذل الحصار إلى الأمام بينما أقدامهم تتردد في أن تبدأ خطواتها إلى مصير مخيف. علل رودان ذلك قائلاً:
"لم أرد أن أظهرهم كمجموعة من الآلهة المبتهجة بالنصر، مثل هذا التمجيد لبطولتهم لن يتوافق مع الحقيقة بأي حال من الأحوال".
نعم، أيًّا كان الأمر، لم يكونوا سوى بشر!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر:
Miller and Marotta, Rodin:The B.Gerald CantorCollection, p. 69.
https://libmma.contentdm.oclc.org/digital/collection/p15324coll10/id/99556/