كيف يساعد إنتاج الفن في تحسين الصحة النفسية

single

توفه يانسون مؤلفة سلسلة المومين في مرسمها، تصوير: رينو لوبينين، 1956

 

سارة كوتا

ترجمة: محمد السعيد

 

مثل الكثيرين، تصاعد شعور أندريا كوبر بالعزلة والوحدة تحت ظل جائحة فيروس كورونا. كوبر إنسانة اجتماعية للغاية، فهي مصممة رسوميات متقاعدة وموسيقية هاوية للأغاني الشعبية ومديرة لبرنامج فني مدعوم معني بمرضى السرطان في مركز ميرسي الطبي في مدينة بالتيمور. عندما أدت الجائحة إلى إلغاء الكثير من أنشطتها وفعالياتها، وحوَّلت جزءًا منها إلى ندوات افتراضية على زوم؛ افتقدت إلى التواصل الاعتيادي المباشر مع الآخرين.

مع استمرار الجائحة، بدأت حالتها النفسية في التدهور أكثر. وانتهى المطاف إلى أن اكتئابها اشتد إلى حد إدخالها المستشفى. وكجزء من تعافيها، شاركت في برنامج للمرضى مدته عشر أيام وبدأت تُراجع معالجًا بالفن.

مع أن كوبر فنانة، إلا أنها في البداية خالجها شك تجاه تعليمات المعالج التي كان يُراد منها إلهام المرضى للرسم والتلوين كوسيلة للتعامل مع آلامهم. لكن بينما كانت كوبر تقضي وقتًا أكبر في التفكير في صحتها النفسية، بدأت تتأمل بعمق أسئلة المعالج، ومن بينها سؤال حول النمو. تقول كوبر البالغة ستة وستين عامًا: «فكرت في الأمر، وعرفت أن عليَّ اتخاذ قرارات صعبة لكي أنمو، وأني إن بقيت على نفس المسار فلن تتحسَّن الأمور».

في النهاية، رسمت مقصًّا يقص غصنًا من أجمة ورود. وكتبتْ على رسمتها: «أحيانًا عليك أن تشذِّب الوردة، لتُحفِّز النمو».

كوبر إحدى الكُثُر الذين تمتعوا بفوائد التشافي بالفن، وهو علاج تكاملي يستخدم التعبير الفني عن الذات بوصفه وسيلة لتحسين العافية النفسية. وبينما يستمر الناس في التعامل مع صعوباتهم النفسية التي سببتها الجائحة -التي سببت زيادةً مقدارها 25% في الاكتئاب والقلق حول العالم، استنادًا إلى منظمة الصحة العالمية- من المُتوقع أن يُصبِح هذا النوع الفريد من العلاج ذائع الصيت. لقد ولَّدت الجائحة مشاعر وعواطف يصعب تعرفها، وإنتاج الفن بحضور معالج مُرخَّص يمكن أن تكون وسيلة واعية وبسيطة تقنيًّا للتعامل معها.

يعود إنتاج الفن بوصفه شكلًا علاجيًّا للصحة النفسية إلى منتصف القرن العشرين، عندما عاد الجنود من جبهات القتال في الحرب العالمية الثانية وهم مصابون بحالة عُرفت بصدمة القصف (Shell Shock)، وتُعرف الآن باضطراب الكَـرْب التالي للصدمة (Post-traumatic Stress Disorder). لقد رسم ولون ونحت وأنتج هؤلاء الجنود السابقون الفنَّ للمساعدة في معالجة ما رأوه وخاضوه في الحرب. تقول غيريجا كمال، معالجة بالفن في جامعة دركسل ورئيسة الاتحاد الأمريكي للتشافي بالفن: «لقد عانوا مع الأشكال التقليدية للتدخلات الطبية والعلاجية. إن تجاربًا مثل الصدمة يصعب التعبير عنها بالكلمات؛ لذا العلاجات التي تستطيع أن تدعم وتربط المرضى بتعبيرات غير لفظية هي أساس العلاج بالفن الإبداعي».

ومن ذلك الوقت أخذت تزدهر هذه الممارسة. اليوم، ثمة حوالي خمسة آلاف معالجًا بالفن في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الكثير حول العالم. إنهم يوظفون هذا العلاج لمساعدة المرضى في حالات شتى. ويراجع بعض أطفال المدارس معالجين بالفن ليتعاملوا مع الصعوبات الاجتماعية والعاطفية، والاضطرابات السلوكية، واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، وضعف الثقة بالنفس، وغيرها من مشكلات. وحتى البالغين الذين تعرضوا إلى نوع من أنواع الصدمة جربوه أيضًا. ويُقدِّم المعالجون الفنَّ لمرضى السرطان الذين يخضعون إلى العلاج الكيميائي، وللمراهقين الذين يواجهون مشاكل نفسية، وللجنود السابقين، ولكبار السن، وللمرضى الذين يعانون من اضطرابات الأكل، وللمساجين، وللفئات الأخرى التي تعرضت إلى صعوبات صحية جسدية ونفسية.

يقدم هؤلاء المعالجون خدمتهم للمجموعات أو الأفراد، وطريقة العلاج نفسه تتخذ عدة أشكال؛ من خربشات عشوائية إلى تحفيزات وأنشطة محددة صُمِّمت لتساعد المرضى على استنطاق عواطفهم. وقد يتردد المرضى في التفاعل في البداية - غالبًا بسبب أنهم لا يرَون أنفسهم مبدعين أو أنهم لم يمارسوا الفن منذ طفولتهم- لذا يجب أن يلجأ المعالجون إلى الابتكار أحيانًا. «ربما أطلب منهم أن يقوموا بإيماءة أو حتى أن يحاولوا إطلاق صوت مثل التنهُّد، ثم يستخدموا الألوان والأشكال والخطوط ليروني ما يشبهه ذلك»، هذا ما قالته المعالجة بالفن ومديرة معهد ممارسات التعامل مع الصدمة والتشافي بالتعبير الفني كاثي مالكيودي لمجلة الفن في أميركا في أكتوبر 2021.

من المؤكد أن البشر -وأسلافهم البدائيين- أنتجوا الفن قبل أن يصبح التشافي به حقلًا معتمدًا بزمن طويل. ومع أن علماء الآثار يختلفون حول ما الذي يُشكِّل فنًّا، فهم يعتقدون أن هذه الممارسة تعود على أقل تقدير إلى العصر الحجري، أي قبل عشرات آلاف السنين. وعلى الرغم من أن أحدًا لا يعرف تمامًا ما الذي حمل إنسان ما قبل التاريخ على الرسم والنحت على جدران الكهوف، فوفقًا لكمية ومدى انتشار هذا الفن جغرافيًّا، من المحتمل أنه استمتع بهذا التعبير الفني. تقول غيريجا كمال: «إنتاج الفن للسلامة والصحة قديمة قِدَمَ هذه التلال. فلدى كل المجتمعات ممارسات إبداعية زاولناها منذ لحظة وجودنا».

لكن لمَ الفن؟ حينما يجد المرضى صعوبةً في تحويل مشاعرهم إلى كلمات، يمكن للرسم والتلوين والنحت وتجميع الصور وصنع الأقنعة الورقية والانخراط في ممارسات أخرى أن يساعدهم في اطلاق العنان لعواطفهم وترجمتها إلى شيء حقيقي. وفي أثناء هذه العملية، بمقدورهم مشاركة بعض ما يمرون به مع من حولهم.

تقول غيريجا كمال إن الفن -مثل مختلف أشكال العلاج الأخرى- وسيلة أكثر أمانًا وصحةً لتحويل التوتر وشتى المشاعر السلبية إلى نشاط، مقارنةً بخيارات تدميرية أو مؤذية: «الانخراط في الممارسة الفنية يساعد في تجسيد واستخراج التجارب الداخلية الصعبة. فعندما نحدُّ أنفسنا في كلمات فقط، نخسر جزءًا غنيًّا من تجاربنا المُعاشَة. يستطيع بعض الناس تحويل مشاعرهم إلى كلمات على نحو رائع، لكن الأغلب لا يستطيع ذلك. أن نملك أشكال تعبير إضافية يعني حقًّا أن نسمح للشخص بأكمله أن يُعبِّر عن نفسه».

تشير الأبحاث إلى أن إنتاج الفن يساهم في تنشيط مسارات المكافأة في الدماغ، وتخفيف التوتر، وتقليل مستويات القلق، وتحسين المزاج. وركَّزت دراسات مختلفة على فوائده على نطاق عينات معينة: على سبيل المثال، تم ربطه بتخفيف اضطراب الكَـرْب التالي للصدمة والاكتئاب في الأطفال السوريين اللاجئين، وبخفض معدلات القلق واضطراب الكَـرْب التالي للصدمة والتفارُق بين الأطفال الذين كانوا ضحايا اعتداء جنسي. كما أن التشافي بالفن يمكن أن يساعد في تخفيض الألم، ويعزز من قدرة المرضى على أخذ زمام حياتهم.

ولأن التشافي بالفن قادر على مساعدة من لا يجد كلمات تستطيع وصف تجاربه وصعوباته، فهو مناسب تمامًا لتحسين السلامة والصحة النفسية في أعقاب الجائحة التي أدت إلى قفزة في مشاعر مجردة كالفتور والاحتراق النفسي. في تقرير الاتحاد الأمريكي للتشافي بالفن عن أثر كورونا الذي أصدرته في مايو 2020، أشار المعالجون إلى أن الناس متعبون من التحدُّث عن الجائحة والمشاعر التي أثارتها، ومن التحدُّث عمومًا بسبب الاجتماعات الافتراضية على زوم طوال اليوم. أما في جلسات التشافي بالفن، فليس عليهم أن يلفظوا كلمةً ما لم يريدوا ذلك؛ ومع هذا، يستطيعون التعامل مع مشاعرهم. وكما لاحظ أحد المعالجين في الاستبانة، رحَّب الكثير من العملاء «بالتعبير عن أنفسهم مستخدمين مواد فنية، كأنهم أعطوا أدمغتهم مهمة جديدة وأفواههم استراحة».

إن إنتاج الفن نشاط عملي يتطلّب تركيزًا تامًّا، وهذا يعني أيضًا أنه استراحة من الشاشات التي ارتفع معدل استعمالها أثناء الجائحة. وكما كتبت مالوري براوس وبريندا مورتن في دورية الصدمة النفسية: النظرية، والبحث، والممارسة، والسياسات في عام 2020: «في التشافي بالفن، التيقُّظ الذهني هو ما يسمح للمرء أن يحظى بالفوائد العلاجية المُتأتية من تجاهل القلق والتوتر اليومي، والتركيز على مهمة فردية مع التركيز أيضًا على المواد المستعملة في التعبير عن الذات».

التشافي بالفن ليس علاجًا لكل شيء، وربما ليس الطريقة المناسبة للجميع -وغالبًا ما تتجلى فائدته كمكمِّل للعلاجات التقليدية الأخرى كما تقول كمال- إلا أن له فوائد جلية. ومع ذلك، على الباحثين فعل المزيد لمعرفة كيفية وسبب ووقت نجاح التشافي بالفن. إن جلَّ الأبحاث تستحضر تجارب مسموعة من الأطباء والمرضى، والكثير من الدراسات تتناول عينات صغيرة كما لاحظت كمال. يجب على المختصين تحضير المزيد من تجارب التحكُّم العشوائية وباستخدام عينات كبيرة لاستمالة شركات التأمين للاعتراف بالتشافي بالفن بوصفه شكلًا علاجيًّا، وتغطيته ماديًّا. ويمكن أن يستفيد هذا الحقل بوجود أدلة إضافية حول تأثير التشافي بالفن على مختلف المجموعات السكانية. تقول: «مقارنةً بباقي مِهَن العلاج النفسي، أمامنا طريق طويل».

 

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي