على اليسار: آن كوستر فاليير - وعاء الحساء الأبيض، 1771. على اليمين: أنطونيو لوبيز جارسيا - العشاء
ترجمة: مشاعل مجرشي
لطالما كانت العلاقة بين الطعام والأدب وثيقة ومعقدة، بدءًا من “كتاب طبخ الفنانين والكتّاب”، مرورًا بإعادة إحياء وصفات جين أوستن في أشكال مبتكرة، ووصولاً إلى مذكرات أليس بي. توكلاس الأدبية، التي يمكن اعتبارها كتاب طبخ بحد ذاتها، وانتهاءً بتلك الأطباق الشهية المستوحاة من عالم “أليس في بلاد العجائب”.
غير أن هذه العلاقة تتجلى بأبهى صورها وأكثرها حيوية في كتاب “أطباق خيالية: ألبوم أطباق لا تُنسى في الأدب” — وهو مشروع مبتكر من تصميم الكاتبة والمصممة دينا فريد. تتفنن دينا في طهي وتصوير وإخراج وجبات مستوحاة من قرنين من الأدب الشهير، حيث ترافق كل صورة مقاطع أدبية توضح الوصفة، إلى جانب حقائق سريعة ومثيرة للاهتمام عن المؤلف، أو الرواية، أو الطعام نفسه.
"الجرس الزجاجي" لسيلفيا بلاث، 1963: "ثم بدأت أتعامل مع سلطة الأفوكادو وقطع السلطعون... كان جدي يأتي لي كل يوم أحد بثمرة أفوكادو مخبأة في قاع حقيبته تحت ستة قمصان متسخة وكاريكاتير يوم الأحد."
"الحارس في حقل الشوفان" لج. د. سالينجر، 1951: "عندما أكون في الخارج، عادةً ما أتناول شطيرة من الجبن السويسري وكوبًا من الحليب المخفوق. ليست وجبة كبيرة، لكنك تحصل على كمية جيدة من الفيتامينات من الحليب المخفوق. هـ. ف. كولفيلد. هولدن فيتامين كولفيلد."
بينما كانت دينا فريد تدرس في كلية رود آيلاند للتصميم قبل بضع سنوات، بدأت المشروع كتمرين تصميم بسيط. لكن الفكرة سرعان ما أسرتها بسحرها، لتتجاوز بذلك الموعد النهائي المحدد لتلك الفترة القصيرة. ومع استمرارها في القراءة والطهي، شعرت بنوع من السمو الذاتي، متأملة: (أليس الأدب أعظم هدية تُمنح للإنسان؟).
ورغم كونها شبه نباتية، وجدت نفسها تخوض صراعًا مع كلى الخنزير لتحضير طبق مستوحى من رواية “يوليسيس” (عوليس)، وتطهو الموز بطرق لا تعد ولا تحصى على طريقة رواية “قوس قزح الجاذبية”.
"مغامرات أليس في بلاد العجائب" لويس كارول، 1865: "تناولي بعض النبيذ، قال الأرنب مارس بنبرة تشجيعية. نظرت أليس حول الطاولة، لكنها لم تجد عليها شيئًا سوى الشاي."
"على الطريق" لجاك كيرواك، 1957: "لكن كان يجب أن أتحرك وأتوقف عن الشكوى، فالتقطت حقيبتي، وودعت صاحب الفندق العجوز الجالس بجوار بصاقه، وانطلقت لتناول الطعام. تناولت فطيرة التفاح والآيس كريم — كانت الأمور تتحسن كلما تعمقت في أيوا، فكانت الفطيرة أكبر والآيس كريم أشهى."
يبدأ الكتاب باقتباس جميل من رواية راي برادبيري الكلاسيكية "فهرنهايت 451" الصادرة عام 1953:
"تناولتها كسلطة، كانت الكتب شطيرتي في الغداء، ووجباتي الخفيفة وكذلك العشاء ووجبة منتصف الليل. مزقت الصفحات وأكلتها مع الملح، وأضفت عليها الصلصة، أعضّ الأغلفة، وأقلب الفصول بلساني! الكتب بالعشرات والمئات بل المليارات. حملت الكثير منها إلى المنزل حتى أحدودب ظهري لسنوات. الفلسفة، تاريخ الفن، السياسة، العلوم الاجتماعية، القصائد، المقالات، المسرحيات العظيمة، أي شيء يخطر ببالك، كنت أتناوله."
رواية "غاتسبي العظيم" للكاتب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، 1925: "وعلى موائد البوفيه المزدانة بالمقبلات المتلألئة، كان الجمبون المشوي المتبل (قطع لحم الخنزير) إلى جوار السلطات الزاهية، وفطائر لحم الخنزير والديوك الرومية التي حوَّلها السحر إلى لون ذهبي قاتم."
الحديقة السرية لفرانسيس هودسون برنيت 1910-1911: "كان البيض المحمص (المشوي) ترفًا لم يُعرف من قبل، والبطاطا الساخنة المملحة مع الزبدة الطازجة تليق بملك يعيش في الغابة، إلى جانب كونها لذيذة ومشبعة."
تتأمل فريد -التي تشرفت بتقديم المشورة لها لفترة وجيزة خلال أطروحتها للدراسات العليا في كلية رود آيلاند للتصميم- في علاقتها العميقة والمستمرة مع تفاصيل الطهي في الأدب الشهير. تلك التفاصيل تمتلك قدرة فريدة متعددة الحواس على نقل القارئ إلى عالم محدد، مما يمنحهم هدية استثنائية تتمثل في ذكريات حية وواضحة بشكل استثنائي.
كثيرًا ما ترتبط أعمق ذكرياتي من الكتب بالوجبات التي يتناولها أبطال القصص. قرأت رواية “هايدي” منذ أكثر من عشرين عامًا، ولا يزال حاضرًا في ذهني طعم الخبز المحمص الذهبي المغمور بالجبن الذي قدّمه جدها لها ، كما أشعر بتلك اللحظة المليئة بالترقب والطمأنينة وهي تراقبه يحضّر الطعام فوق النار المشتعلة. أستعيد بعض الوجبات لما ترمز إليه من لحظات فارقة في الرواية، مثل الكعك بالنعناع الذي قدمته ميليسا لتشيب في رواية “التصحيحات”، والذي كان إشارة لبداية علاقتهما العاطفية التي قادته لاحقًا إلى انهياره المهني والشخصي. وهناك وجبات أخرى علقت بذاكرتي لأنها نجحت في نقل أجواء الرواية. مؤخرًا، أخبرني صديق أنه بعد قراءة “لوليتا”، بدأ يشرب خليط المُسْكِر مع عصير الأناناس، وهو المشروب المفضل للراوي، همبرت همبرت. كنت قد قرأت “لوليتا” عندما كان عمري قريبًا من عمر لوليتا نفسها، وأدهشني كيف أن مجرد وصف صديقي لذلك المزيج أعادني فورًا إلى عالم نابوكوف المميز: صيف خانق في نيو إنجلاند، حيث يقصّ هومبيرت هومبيرت العشب المتناثر تحت شمس لاهبة، مخمورًا وغارقًا في الحب، يشتاق لدولوريس التي تقضي وقتها في المخيم. وبالمثل، فإن وصف ميلفيل للحساء الدافئ المتصاعد بخاره في “موبي ديك” يستحضر رؤية لحياة إسماعيل البحرية: هواء المحيط المالح والرطب في مساءٍ مظلم؛ حيث يجد السكينة في نزل دافئ ذي إضاءة خافتة وغرفة طعام مريحة تملؤها البهجة ورائحة المأكولات البحرية الطازجة.
جميع صور فريد تنبض بالتفكير العميق (فالعشاء المتقشف لإسماعيل من “موبي ديك” ليس مجرد وجبة مناسبة للطابع البحري المتمثلة في الحساء البحري، بل يظهر أيضًا وكأنه مضاء بضوء الشموع)، وبعضها يحمل طابعًا مميزًا من السخرية الثقافية المبطنة (يمثل رواية “تحالف الأغبياء” بأيقونة المطبخ الأمريكي، وهو الهوت دوغ على غطاء طاولة كلاسيكي لمطعم أمريكي تقليدي).
رواية “تحالف الأغبياء” لجون كينيدي تول، 1980: “عند توقفه أمام المرآب الضيق، استنشق الأبخرة القادمة من الفردوس بمتعة حسية غامرة، حيث تولت الشعيرات البارزة في أنفه تحليل وتصنيف وتمييز الروائح المميزة للهوت دوغ، والخردل، وزيت التشحيم.”
رواية “موبي ديك” لهيرمان ميلفيل، 1851: “وقد زادت الرحلة الباردة من شهيتنا، وبالأخص كويكويج حين رأى طعامه البحري المفضل أمامه، ولأن الحساء كان رائعًا بجودة تفوق الوصف، أجهزنا عليه بسرعة وحماس شديدين…”
في تعبير يستحضر تشبيه لويس كارول بين الطعام والتغذية الفكرية، تكتب فريد:
القراءة وتناول الطعام رفيقان طبيعيان يشتركان في الكثير من الصفات. فالقراءة استهلاك، وكذلك الطعام. كلاهما يمنح الراحة، ويغذي، ويجدد، ويبعث على الاسترخاء، وغالبًا ما يكون ممتعًا. يمكنهما أن يمنحاك الطاقة أو يدفعانك إلى النوم. الكتب الثقيلة والوجبات الدسمة يتطلبان فترة من الهضم العميق. وكما أن قراءة الروايات العظيمة قد تنقلك إلى أزمنة وأماكن مختلفة، فإن الوجبات – سواء كانت مميزة أو عادية – يمكن أن تستحضر مشاهد بعيدة تمامًا عن طاولة مطبخك. بعض وجباتي المفضلة تحكي قصصًا عن الأصول والتقاليد؛ وكقارئ نهم، ألتهم كتبي المفضلة بشغف لا يقل عن شغفي بتناول الطعام.
رواية “هايدي” لجوانا سبيري، 1880: “سرعان ما بدأت الغلايَة تغلي، وفي هذه الأثناء كان الشيخ يمسك بقطعة كبيرة من الجبن على شوكة حديدية طويلة فوق النار، يديرها مرارًا وتكرارًا حتى أصبح لونها ذهبيًا جميلاً من كل جانب. كانت هايدي تراقب ما يحدث بفضول متلهف.”
رواية “التحول” لفرانتس كافكا، 1915: “كانت هناك خضروات قديمة شبه متعفنة؛ عظام من وجبة العشاء، مغطاة بصلصة بيضاء تصلبت؛ بضع حبات زبيب ولوز؛ قطعة جبن كان جريجور قد أعلن عدم صلاحيتها للأكل قبل يومين؛ قطعة خبز جافة وبعض الخبز المدهون بالزبدة والملح…”
رواية “الخوف والبغض -القرف- في لاس فيغاس” لهانتر س. تومسون، 1971: “صرخ قائلاً: ‘أنتم أيها البيض اللعينون جميعكم متشابهون. في هذه الأثناء، فتح زجاجة جديدة من مشروب التكيلا وبدأ يتجرعها بشراهة… قام بتقطيع الجريب فروت إلى أرباع… ثم إلى أثمان… ثم إلى ستة عشر… بعدها شرع يقطع البقايا بشكل عشوائي.”
رواية “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز، 1837: “رغم أنه كان مجرد طفل، إلا أنه كان يائسًا من الجوع، ومستبدًا به البؤس. نهض من الطاولة، وتقدم نحو المشرف، يحمل في يده الوعاء والمعلقة، وقال، وقد ارتجف قليلاً من جرأته: ‘من فضلك، يا سيدي، أريد المزيد.’”
رواية “أن تقتل طائرًا بريئًا” لهاربر لي، 1960: “قال بدهشة: ‘يا للرحمة، كال، ما كل هذا؟’ كان يحدّق في طبقه على مائدة الإفطار. ردّت كالبورنيا: ‘والد توم روبنسون أرسل لك هذه الدجاجة صباح اليوم، وقد أعددتها لك.’ فقال: ‘بلّغيه أنني فخور بتلقيها – أراهن أنهم لا يتناولون الدجاج على الإفطار في البيت الأبيض.’”
رواية “الفتاة ذات وشم التنين” لستيغ لارسن، 2005: “صنعت ضمادات مرتجلة وغطت الجرح بكمادة بسيطة. ثم سكبت القهوة وقدمت له شطيرة. قال: ‘بصراحة، لا أشعر بالجوع.’ فردّت عليه سالاندر بنبرة حازمة: ‘لا يهمني إن كنت جائعًا أم لا. فقط كُل.’ ثم أخذت قضمة كبيرة من شطيرتها بالجبن.”
رواية “بحثًا عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، 1913: “في يوم شتوي، عندما عدت إلى المنزل، رأتني والدتي أرتجف من البرد، فاقترحت عليّ، على غير عادتي، أن أتناول قليلًا من الشاي. رفضت في البداية، ثم، لسبب لا أعلمه، غيّرت رأيي. فأرسلت تحضر واحدة من تلك الكعكات الصغيرة المكتنزة التي تُدعى مادلين..”
لكن بوصفي معجبة مهووسة بأعمال موريس سينداك، فإن هذه هي مفضلتي التي لا جدال فيها:
“شوربة الدجاج مع الأرز” لموريس سينداك، 1962
الصفحات الأخيرة من كتاب أطباق خيالية، وهو متعة حقيقية بكل تفاصيله، تحتوي أيضًا على واحدة من أجمل الإهداءات التي قرأتها:
“امتنانًا وحبًا لوالدي، على تعليمي القراءة بتمعن، ولأمي، على تعليمي النظر بعمق.”