ترجمة: جوزيف بوشرعه
![](https://www.sartsa.com/image/335098563.png)
القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ وأيقونة العذراء ذات الثّلاثة أيدي، جيوفاني غاسبارو
في هذه اللّوحة يصوّر غاسبارو قصّةً من حياة هذا القدّيس، وهو موضوعٌ مفضّلٌ لدى الفنّانين. تمثّل هذه اللّوحة اتّحاد التّقليدين الغربيّ والشّرقيّ في الألوهيّة المتعاليّة.
بلغني مؤخّرًا مقال المُكرّسة المسيحيّة هيلاري وايت «HilaryWhite Obl. S.B.»، وعنوانه ما الذي يجعل الفنّ المقدّس مقدّسًا؟ والمقال نقدٌ موسّعٌ لفنّانٍ إيطاليٍّ يدعى جيوفاني غاسبارو «Giovanni Gasparro»، الذي ألهم بلوحاته عددًا من تأمّلاتي الدّينيّة التي كتبتها على هذا الموقع سابقًا. وانطلاقًا من إعجابي بالفنّ الباروكيّ المحدث «Neo-Baroque art» عند السيّد غاسبارو، سعدت بعرض إحدى لوحاته على موقع «RORATE CÆLI». ويبدو أنّ السيّدة وايت قد تطرّقت إلى هذا الموضوع جزئيًّا. بيد أنّني كلّما طالعت أكثر في مقالها، كلّما وجدت أنّني أتعارض تمامًا مع تحليلها وفلسفتها عمومًا.
وعلى الرّغم من تقديري تحاليلها السّابقة، فضلًا عن روحها النُّسكيّة التي أتت بها في كتابتها، فالحقّ أنّني قد تفاجأت من مقالها الفقير نوعًا. وعادةً أتجنّب الدّخول في الجدالات، ولكنْ نظرًا لانتشار مقال السيّدة وايت في الدّوائر الكاثوليكيّة شعرت بحاجة طرح منظورٍ معارضٍ له.
ثمّة العديد من المشكلات في المقال. إنّه مثلٌ أنموذجيٌّ عمّا لا يجب كتابته في الفنّ واللّاهوت، حيث يخفق في الوصف، والتّوصيف، والتّخيّل. تركّز وايت كثيرًا على لوحةٍ واحدةٍ: لوحة القدّيس البابا بيوس العاشر. وعندما تتطرّق إلى أمثلةٍ أخرى عن فنّ غاسبارو، دائمًا ما يكون تحليلها - ولا أدري إذا يصحّ استخدام هذه اللّفظة على موجز إداناتها - سطحيًّا جدًّا، فلا ينصف فنّانًا موهوبًا كغاسبارو. وفيما تشير إلى أنّه رسّامٌ بارعٌ، فهي تُلحق هذا التّعليق بتأكيدٍ يفترض بأنّ غاسبارو «شخصٌ لا يزال يقارب المواضيع المقدّسة من ذهنيّةٍ حداثيّةٍ واضحةٍ».
القدّيس البابا بيوس العاشر، جيوفاني غاسبارو.
ثمّة مشكلاتٌ فلسفيّةٌ جسيمةٌ في حجّة السيّدة وايت. لكنّني أفضّل الشّروع بمقاربتها الرّكيكة للمادّة نفسها.
خذ مثلًا صغيرًا، وهو برأيي مؤشّرٌ؛ تزعم السيّدة وايت أنّ في بورتريه البابا القديس بيوس العاشر يقع الضّوء على وجه البابا على نحوٍ شرّيرٍ، حيث تكتب:
«لكنّ لوحة بيوس العاشر مضاءةٌ بشكلٍ خافتٍ، ويرتبط هذا النّوع من الإضاءة بالشّرّ. إذا شاهدت أفلام الرّعب، فغالبًا ما يوضع الضّوء على الوجه بهذه الطّريقة لإعطائه تأثيرًا مخيفًا، بل شيطانيًّا. وهذا ما يتبادر إلى الذّهن: من أين يأتي الضّوء إذا كان الضّوء من الأسفل؟ أي هل نور الجحيم هو هذا الوهج الأبيض؟
هذا النّور يضيء بنية الوجه من زاويةٍ غريبةٍ وغير طبيعيّةٍ - فالنّور لا يأتي عادةً من الأسفل إلى الأعلى، ناهيك عن النّور السّماويّ - إذ ترى الجانب السّفلي من حافّة الحاجب مضاءً، ممّا يعطي تجويف العينين مظهرًا غائرًا مريضًا، إلخ... ولن نجد شيئًا من هذا التّصوير موجودًا في الفنّ المقدّس التّعبّديّ الحقّ.»
إنّها فكرةٌ مثيرةٌ للاهتمام، لكنّها لم تصب الهدف.
أوّلاً، ليس البابا مضاءً بشكلٍ خافتٍ، بل من الأدقّ القول إنّه مضاءٌ من الجانب. ثمّة تشابهٌ مذهلٌ في الطّريقة التي يسقط فيها الضوء في لوحة غاسبارو وصورة القدّيس بيوس التي تقارنها بها السيّدة وايت. فالإضاءة الجانبيّة ليست غريبةً في الفنّ الكاثوليكيّ، على سبيل المثال، لوحة القدّيس فرنسيس للفنّان زوبران تستخدم الزّاوية نفسها تقريبًا للحصول على تأثيرٍ أكثر شؤمًا.
يتطلّب تفسيرها المبتدع واحدًا من الافتراضَين: أوّلًا، إنّ المعجم الرّسميّ للفنّ المقدّس، أو الفنّ الغربيّ، ضيّقٌ جدًّا حيث لا ينطوي إلّا على نطاقٍ محدودٍ من الدّلالات في استعمال الضّوء. وثانيًا، إنّ عمل غاسبارو مدنّسٌ في جوهره، أو مضلّلٌ، أو شرّيرٌ. ولا ينصف كلا الافتراضَان العمل الفنّي، حيث يحجبا معناه، عوضًا عن إيضاحه.
ولكنّ هذه النّقطة بسيطةٌ نسبيًّا مقارنةً ببعض التّحليلات المجحفة الأخرى التي قدّمتها السّيّدة وايت. فقد اعتبرت أعمال غاسبارو «سرياليّةً وليست فنًّا مقدّسًا»، كما أشارت إلى الموتيفة «motif» المتمثّلة برسم الأيادي المتعدّدة. كما اعترضت على طريقة تصويره للوجوه، حيث ظهر موقفها بوضوحٍ في نقاشها بورتريه بيوس العاشر:
«كان جيسيبي سارتو ذا وجهٍ طوباويٍّ حتّى في وفاته، كما كان وسيمًا وصاحبَ ملامحَ شديدةِ الثّقة والهدوء. ولا يسعني تخيّله أبدًا بوجهٍ كالذي أراه في اللّوحة. والحقّ أنّه يبدو أقرب إلى النّتيجة التي ستحصل عليها إذا استنسخت بيوس العاشر وأضفت إليه بضع قطراتٍ من السّياسيّ الإنكليزيّ نايجل فاراج «Nigel Farage».»
ثمّ تتابع وايت كلامها بالإشارة إلى «النّتوءات والانتفاخات» التي رسمها غاسبارو على وجه بيوس العاشر، حيث تعكس تعابير وجهه على نحوٍ غير لائقٍ «التّوجّس لا التّعبّد».
لا ريبَ بأنّ الشّبه ليس كاملًا. فهي لم تخطئ في ملاحظة التّشابه بين بيوس ونايجل فاراج، وهي صفةٌ مؤسفةٌ في اللّوحة. ولكنْ، على الرّغم من ذلك، فهذه العبارات المُدينة تعكس فشل مخيّلة السيّدة وايت أكثر من إدانتها فنّ السّيّد غاسبارو. علاوةً على ذلك، ألا يستطيع وجه البابا أنْ ينقل أيضًا مجموعةً أخرى من المشاعر؟ ألا يمكن أن تعبّر ملامح البابا عن التّضرّع المتواضع بدلًا من المخافة؟ أوليست مخافة الله المقدّسة يحملها الكهنة في قلوبهم عند تقديمهم ذبيحة القدّاس الإلهيّة؟ ألا يمكن أنْ يكون البابا سارتو قد ارتسمت على وجهه التّعابير نفسها عند المذبح فيما ينطق الكلام المقدّس والجوهريّ؟ أهي حقًّا غير قادرةٍ على تخيّل أنّه «لم يكن قادرًا على تخيّل وجهٍ مثل الذي في الّلوحة؟» حتمًا، ليس الأمر تعجيزيًّا كما تخاله.
وفي هذا السّياق تتابع السيّدة وايت كلامها مسهبةً:
«ليس «النّور» من القربان المقدّس نورًا، فهو لا ينير شيئًا، كما لا انعكاسَ له على الوجه، أو اليدين، أو ثياب القدّاس. كذلك، إنّ الهالة ميتةٌ بوصفها مصدرًا للضّوء، لأنّها لا تسقط على شيءٍ. فالضّوء الوحيد على الصّورة هو من ذاك المصدر الأبيض السّفليّ الأيسر، مثل ضوء المسرح. وقد يكون هذا اللّانور من القربان المقدّس رمزًا، كأنّه يقول: هذا ليس نور العالم.
يتولّد لدى المرء انطباعٌ أنّ رسالة اللّوحة مفادها بأنّ اللّاهوت الإفخارستيّ خداعٌ، ولا نورَ من القربان المقدّس، والمُحتفل ليس مؤمنًا، ويقول وجهه: هذه مسرحيّةٌ وخدعةٌ.
والحقّ، كلّما نظرتَ إليها أكثر كلّما زاد شعورك بأنّها محاكاةٌ ساخرةٌ للفنّ المقدّس. وكما علّق أحد أصدقائي قائلاً: «لا يبدو وجهه طوباويًّا أبدًا». ثمّة شيءٌ في هذه الواقعيّة المفرطة وفي جميع تكتّلها والإضاءة البيضاء الخافتة لا يوحي لي بالسّماويّة، بل بالذُّهانيّة. فتبدو اللّوحة وكأنّها تحريفٌ مضمرٌ للواقع.»
يا لها من سلسلةٍ عجيبةٍ من التّأكيدات.
تتبادر إلى ذهني فورًا بعض الأسئلة: أوّلاً، لماذا يجب أن ينير القربان المقدّس شيئًا بالضّرورة؟ بالطّبع، ثمّة أشعّة نورٍ واضحةٍ تنبعث منه، ولم يرتبك المشاهد العادي عند رؤيته اللّوحة لفهم المقصود منها روحيًّا. ولكنْ، لماذا يجب أنْ يُرى هذا النّور معكوسًا على شيءٍ آخر، في حين أنّه ليس ضوءًا أرضيًّا أصلًا؟ ثانيًا، لماذا يجب أن تكون الهالات مصادرَ للنّور؟ فقد حاجّ ديفيد كلايتون «David Clayton» في مقاله على موقع «New Liturgical Movement: Halo Shapes: Round or Triangular? » أنّ:
«فنّ عصر النّهضة العليا والباروك يهدف إلى تصوير الإنسان التّاريخيّ (وليس كما كانت هي الحال مع إنسان الأيقونة الإسختولوجيّة المتّحد مع الله في السّماء)، وما يفعله الفنّانون قد يكون في الواقع متّسقًا مع هذا. وقد يقترح المرء ذلك بأنّ هدف النّور غير المخلوق، أي الهالة النّورانيّة «nimbus»، لن تكون مرئيّةً (أقلّه بالدّرجة نفسها) لدى الإنسان السّاقط، حتّى لو كان هذا الإنسان قدّيسًا، لذلك يبدو أنّ الفنّان قد يختار ألاّ يصوّر الهالة على نحوٍ خافتٍ، كوهجٍ خفيفٍ، أو ألّا يصوّرها إطلاقًا.»
إنّ التّمييز الذي وضعه كلايتون بين فنّ الأيقونة «iconography» والفنّ هو تمييزٌ مهمٌّ، وسنعود إليه لاحقًا. أمّا الآن، سأكتفي بالإشارة إلى واقعتين: (أ) من الشّائع جدًّا في الفنّ الغربيّ أنْ نعثر على هالاتٍ لا تكون وظيفتها مصدرًا للنّور، (ب) الهالة في لوحة البابا غاسبارو هي ذات إضاءةٍ منتشرةٍ، ولكنّها واضحةٌ. لذا، لا يسعني إلّا أن أشعر بأنّني أنظر إلى صورةٍ مختلفةٍ تمامًا عن صورة السيّدة وايت، استنادًا إلى مدى سوء وصفها لها. لقد قدّمت السّيّدة وايت شهادةً عن تفاعلها الشّخصيّ مع اللّوحة، عوضًا عن محاولة تحديد ما يعبّر عنه الفنّان من خلال ما أظهره فيها.
عذراء بينوا، ليوناردو دا فينشي. واحدةٌ من اللّوحات التي يشير إليها كلايتون. لاحظ أنّ الهالتيْنِ هما دائرتان ذهبيّتان، وليسا نورًا.
وإذا تطرّقت السّيّدة وايت إلى اللّوحة بحدّ ذاتها، فستلجأ إلى التّأويل المفرط المرتاب الذي يميّز نظريّات المؤامرة، حيث تُبرز التّفسيرات الأقلّ احتمالاً والأكثر خبثًا. وعوضًا عن الاكتفاء بالتّأكيد، كما يحقّ لها أن تفعل، على أنّ غاسبارو قد رسم لوحةً سيّئةً من الفنّ المقدّس، فهي تذهب إلى حدّ اتّهام الفنّان بالاستهزاء بالمقدّس.
قد يكون ثمّة شيءٌ شنيعٌ، أو هابطٌ، أو حتّى متكلّفٌ في أعمال غاسبارو. لكنّ الشّنيع، والهابط، والمتكلّف ثلاثة مصطلحاتٍ كاثوليكيّةٍ أنموذجيّةٍ. انظر إلى المطبوعات الصّغيرة للقلبين المقدّس والطّاهر المحاطين بالورود من جميع الألوان، حيث تحيط بها الملائكة لابسةً أثوابًا بيضاء. وانظر إلى الكراغل التي تنمو كالبذور الحجريّة المخيفة من زوايا أبراج كاتدرائيّاتنا. وانظر إلى العضلات الملتوية والجلد المغروس بالأشواك في لوحة المذبح في بلدة أيزنهايم .وانظر إلى الكنائس ذات عمارة الركوكو التي تزيّن المناظر الطبيعيّة في أراضي هابسبورغ القديمة. انظر إلى الزّيّاحات الإسبانيّة في أسبوع الآلام، حيث ترون تلك الطّراطير والتّماثيل المذهّبة في الشوارع. انظر إلى الأحذية التي يرتديها الإكليريكيّون ما قبل المجمع الفاتيكيانيّ الثّاني. انظر إلى الطيّات الضخمة من الحرير المبلّل التي كانت تزيّن الكرادلة والأساقفة وسائر السّادة الكهنة في ذلك العصر الأكثر ثقةً بسيادة الكنيسة. انظر إلى لباس الجوقة الرّائع في معهد المسيح الملك «Institute of Christ the King»، الذي بات يُسمّى الكاهن السّياديّ! انظر إلى الكاردينال بورغ في لباسه وقبّعة الكرادلة الفخمة «cappa magna» التي يرتديها وقد رسم غاسبارو بورتريه عنه أيضًا.
ثمّة شيءٌ غريبٌ وغير مألوفٍ وآخريّ على نحوٍ مبهجٍ في ديانتنا. وحتمًا، جميع ذلك هو حقٌّ وواجبٌ. فالكاهن هو الآخر، والكنيسة هي الآخر، ويجب أن تبدو مجنونةً في عالمٍ يبدو مجنونًا. وأظنّ أنّ فلانيري أوكونور «Flannery O’Connor» قد قالت يومًا: «ستعرفون الحقيقة، والحقيقة ستجعلكم غريبين». وبغضّ النّظر عن صحّة هذا الاقتباس، فأنا أعتبره حكمةً حقيقيّةً للحياة الكاثوليكيّة في العالم الحديث. ولا أمانع إذا كان فنُّنا يعكس هذا الميل الغريب، حتّى لو أزعجنا قليلًا، بل سأكون أكثر ريبةً إنْ لم يكن كذلك.
جميعنا نعيش غرباء، في العالم الأرضيّ أو في السّماء. ويتحدّانا فنّ غاسبارو بهذه الصّبغة من الغرابة، فيرميها أمامنا، ويقلقلنا. وهذا أمرٌ جيّدٌ. أليس الإنجيل حكايةً مثيرةً تقلقل الذّات؟
torculus Christi: المعصرة الرّوحانيّة مع القدّيس غابريال ديل أدولوراتا والقدّيسة جيما غلغاني، جيوفاني غاسبارو. إنّها واحدةٌ من لوحاته الأغرب، وفي الوقت عينه متجذّرةٌ في التّقليد الكاثوليكيّ الرّوحانيّ والفنّيّ.
أمّا في ما يخصّ بعض الملاحظات الأخرى للسيّدة وايت، فثمّة التّمييز الذي وضعته بين الفنّ السّرياليّ والفنّ المقدّس. يُصادف أنّني أعمل حاليًّا على مقالةٍ سأدافع فيها عن فكرةٍ مفادها أنّ السّرياليّة حركةٌ فنّيّةٌ يمكنها الانفتاح أمام الكثير من السُّبل الجديدة لفنٍّ روحيٍّ كاثوليكيٍّ، وذلك بعد إزالة العناصر العدائيّة للكنيسة فيها. بالفعل، ثمّة مجموعةٌ كبيرةٌ من الأعمال التي يمكننا تسميتها السّرياليّة الكاثوليكيّة. وآمل أن أستخدمها في تلك الحجّة. ولكنْ، سأكتفي بدحض حجّتها على النّحو الآتي.
تعترض السيّدة وايت أيضًا على استخدام غاسبارو الشّائع للأيادي المضاعفة في لوحاته، فتكتب في إحدى تعليقاتها المتعالية:
«يبدو أنّه مولعٌ برسم هذا الشيء المريع، عنيت الأيادي المتعدّدة العائمة. ويمكنني أن أسمّي هذا الأمر «البصمة» «schtick»، وهو أمرٌ شائعٌ بين الفنّانين الشّباب المتدرّبين تدريبًا عاليًا، حيث يعتقدون أنّ امتلاكهم «بصمةً» سيجعلهم معروفين بالعلامة التّجاريّة.»
ولعلّ هذه الإدانة التّامّة لفنّ غاسبارو هي أسوأ ما في المقال، لأنّها تشير إلى رفض مناقشة ما رسمه الفنّان، فتوجزه بإجحافٍ كي تدينه كلّه.
يؤدّي استخدام الأيادي المتكاثرة- أو أجزاء الجسم الأخرى أحيانًا- وظيفتينِ في فنّ غاسبارو: أوّلاً، يمكنها التّعبير عن مرور الزّمن. ففي لوحة معجزات القدّيس فرنسيس دي باولا (2015)، تمثّل مجموعة الأيادي المضاعفة أعمالًا سرّيّةً. ثانيًا، يمكنها التّعبير عن عدّة مستوياتٍ من المعاني الرّوحيّة التي قد تغيب عن التّصوير التّقليديّ. إنّ التّلاعب بالايماءات يفتح الصّورة. وينطبق هذا الأمر خصوصًا على لوحات غاسبارو الآتية: «Speculum Institiate» [مرآة العدالة] (2014)، القدّيس نيكولاس دي باري (2016)، فضلًا عن بورترييه البابا بيوس السّابع المؤثّرة والمعنونة «Quum memorando» [الجدير بالتّذكّر] (خادم الرّبّ، البابا بيوس السّابع كيارامونتي) (2014).
معجزات القدّيس فرنسيس دي باولا، جيوفاني غاسبارو.
تقود هذه المضاعفة المشاهد نحو التّفكير في كلّ فعلٍ أو معنى روحيٍّ، والتّأمّل في الطريقة التي يتصرّف فيها الفاعل في كلّ حالةٍ. كذلك، يقودنا تعدّد الأيادي إلى بُعدٍ تأمّليٍّ ثانويٍّ للعمل الفنّي. وكما ذكرت في بداية هذا المقال، فقد وجدت عمله حافزًا مثمرًا لهذا النّوع من التأمّل الرّوحيّ.
الاستحالة الجوهريّة، جيوفاني غاسبارو. تصلح هذه الصّورة لتكون في الكنيسة.
خذ مثلًا، واحدةً من أروع أعمال غاسبارو وهي لوحة الاستحالة الجوهريّة (2009). وسأكرّر هنا ما كتبت عنها في مقالي عن القربان المقدّس (A Corpus Christi Meditation | The Amish Catholic):
«ثلاثة أزواجٍ من الأيادي، مثل أزواج الأجنحة الثّلاثة على السّيرافيم والكاروبيم، تحمل عاليًا القربان المقدّس الذي ينزف في فضاءٍ غير محدّدٍ. تبدو المجموعات الثّلاث من الأيادي متشابهةً، وقد تكون يدَي الكاهن نفسه وقد صُوّرتا وفق مدّةٍ زمنيّةٍ. هذا الخلط بين الزّمان والمكان يعطي الصّورة انطباع الأزليّة. فنرى شيئًا متعاليًا، حيث لم تعد الإفخارستيّة حدثًا أرضيًّا، بل أصبحت طقسًا يحدث أبدًا في اللّيتورجيا الكونيّة في السّماء. ومن هو الكاهن الأعظم الذي يحتفل بهذا الطّقس عند البشر؟ من يكون إلّا المسيح؟ ففي صورة غاسبارو يكون المسيح حاضرًا بصفته كاهنًا وذبيحةً.
كذلك، تذكّرنا أزواج الأيادي الثّلاث بالثّالوث الأقدس. عندما نقترب من القربان المقدّس فنحن نقرب حقًّا من الله الثّالوث. فلا يحدث في القدّاس فعل الاستحالة الجوهريّة إلّا بسبب عمل الثّالوث كلّه. فالمسيح يقدّم نفسه للآب في الرّوح القدس، من خلال أيادي كهنته وصلاة عروسه، أي الكنيسة. إنّه لحقٌّ وواجبٌ أنْ ننظر إلى اللّوحة بين قدّاس أحد الثّالوث الأقدس وخميس الجسد وفق الطّقس العاديّ.
لدى اللّوحة طابعٌ مقدّسٌ، فهي كاللّيتورجيا تصوّر شيئًا من اللّامرئيّ، وتظهره لحواسّنا الأرضيّة. عندما ننظر إلى لوحة غاسبارو نلحظ شيئًا عميقًا ومقلقًا ومقدّسًا، أي شيئًا مخفيًّا عنّا. ألا نسمع كلمات ترنيمة القدّيس توما الأكوينيّ « Lauda Sion - Wikipedia» لعيد خميس الجسد؟»
في كلّ مرّةٍ أعود فيها إلى هذه اللّوحة، أجد شيئًا أعمق فيها. وأودّ الإشارة إلى أنّ تعدّد الأيادي هو أسلوبٌ نجده في أعمال أكثر الفنّانين الكاثوليك طهرًا: المكرّم فرا أنجليكو «Fra Angelico» الذي استخدم الطّريقة نفسها التي استخدمها غاسبارو تقريبًا.
الاستهزاء بالمسيح، فرا أنجليكو. في هذه اللّوحة، يستخدم أنجليكو الأيدي بالطّرق نفسها التي يستخدمها فيها غاسبارو، وذلك تلخيصًا لعدّة أحداثٍ متسلسلةٍ في صورةٍ واحدةٍ، فضلًا عن إعطائنا بصيرةً للفعل المخفيّ، ما يقودنا تاليًا نحو التّأمّل. وقد لاحظ اثنان من أصدقائي على الفايسبوك هذه القرابة الشّكليّة والرّوحيّة بين الفنّانَيْن.
بالطّبع، لا أتوقّع من السيّدة وايت أو أيّ شخصٍ آخر أن يمتلك المقاربة نفسها التي أتّبعها في كلّ عملٍ فنّيٍّ. إذا وجدت لوحة غاسبارو «شنيعةً»، فهذا حقّها. لكنّها ليست حجّةً ضدّ كاثوليكيّة غاسبارو. إنّه تقييمٌ ذاتيٌّ وانفعاليٌّ لفنّه، وتاليًا يندرج تحت الذّوق أكثر من اللّاهوت الجماليّ. ولا يوجد شيءٌ خطأٌ في جوهر هذه المقاربة حيث ينزع المرء إلى وصف تفاعلٍ عاطفيٍّ تجاه عملٍ فنّيٍّ معيّنٍ. والحقّ، يسعدني تمامًا ترديد القول اللّاتينيّ: في الأذواق لا مجال للنّقاش «de gustibus non est disputandum»، وأترك الأمر عند هذا الحدّ.
والمؤسف أنّ السيّدة وايت تسهب في حديثها عمّا يشكّل فنًّا مقدّسًا، مؤكّدةً أنّ السيّد غاسبارو لا يقرب منه بتاتًا. فتكتب:
«لا أعرف شيئًا عنه ما خلا ما يرسمه، وتاليًا لا أملك فكرةً عمّا يقصده هذا الفنّان، وهذا مؤشّرٌ أنّه لا يصنع فنًّا مقدّسًا. ولكن يبدو أنّ الواقعيّة المفرطة عمومًا لم تنجح في تصوير الفنّ التّعبّديّ، إذ ستظهر دائمًا على أنّها غريبةٌ وساخرةٌ، لأنّ الغرض من الرّسم التّعبّديّ ليس تصوير الواقع الدّنيويّ العاديّ بجميع عيوبه، بل الواقع الخارق للطّبيعة والمثاليّ، أي تصوّر واقعًا خلاصيًّا لا يمكن لحظه إلاّ قليلًا في هذه الحياة من خلال رؤية القدّيسين.
إنّ الفنّ المقدّس هو فنٌّ تعبّديٌّ. وإن لم يكن تعبّديًّا فهو محاكاةٌ ساخرةٌ للمقدّس.»
من أين أبدأ؟
أوّلًا، لا يهمّ ما يقصده الفنّان. حتمًا، لا نحتاج معرفة نوايا الفنّان لتقدير ما هو موجودٌ في العالم المركّب للمصنوع الفنّي. قد يكون ذلك مفيدًا، لكنّه ليس ضروريًّا. «فالقصد» هو واحدٌ من تلك المصطلحات التي لا تكون متجانسةً بل مبهمةً حتّى تكاد تكون خاليةً من المعنى. خذ مثلاً مجموعةً من «المقاصد» التي قد يتضمّنها أيّ عملٍ فنّيٍّ. فمعظم فنّاني عصر النهضة قصدوا على الأرجح إنتاج صورٍ ترضي رعاتهم الأثرياء كي يؤمّنوا قوتهم. وعلاوةً على ذلك، يبدو أنّ قدرًا كبيرًا من الإيروس «Eros» قد ولّد الكثير من الآداب الغربيّة. فلا شكّ من أنّ نفوس الفنّانين قد استنارت أحيانًا بعظمة أعمالهم. ولكنّنا لا نستطيع معرفة مدى كان هؤلاء الرّجال خاطئين، (وكانوا جميعهم رجالًا تقريبًا)، عندما قصدوا تحميل أعمالهم معنًى روحيًّا.
زد على ذلك، إنّ نفور السيّدة وايت من «الواقعيّة المفرطة»، فضلًا عن «السّرياليّة»، تقودها إلى إغفال واقعة أنّ أعمال غاسبارو تحقّق توازنًا متجسّدًا بين الاثنين. فالأشخاص الذين يرسمهم هم بشرٌ، ولكنّهم بشرٌ في المصنوع الفنّي الغريب الذي يصوّره، فيحيط بهم غموضٌ يتجاوز إنسانيّتهم، حيث يشاركوننا وضعنا البشريّ، بينما يشيرون نحو عالمٍ ما وراء هذا الوضع.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كراهيّة السيّدة وايت «للواقع الدّنيويّ العاديّ بجميع عيوبه» سيؤدي بالضّرورة إلى شطب اسم كرافجيو «Caravaggio» من لائحة الفنّانين الكاثوليك. ولا شكّ بأنّ غاسبارو يشبه كرافجيو أكثر من أيّ فنّانٍ آخر، ولعلّها ستسعد لإزالته من اللّائحة. فأيّ فنّانٍ آخر ستشطبه المقاربة التّمييزيّة للسيّدة وايت؟ أهو روبنز «Rubens» وتصويره للعذارى الممتلئات؟ أم ماتياس غرونولد «Matthias Grunewald» ولوحات الصّلب الموحشة؟ ماذا عن كارلو كريفيللي «Carlo Crivelli» والعينين الخبيثتين والباغتتين اللّتين يرسمهما لقدّيسيه؟ ماذا نفعل مع فنّاني التّكلّفيّة «mannerism» وجميع أعضاء الجسم المتضخّمة التي تزيّن لوحاتهم؟ وهل علينا أن ننفي قيمة أعمال رامبرانت الدّينيّة «Rambrandt»، على الرّغم من أنّه لم يكن كاثوليكيًّا، لأنّه تجرّأ على إظهار السّطح المتعرّج للجسد البشريّ؟ أليس هذا الدّافع هو الأقلّ كاثوليكيّةً، أي الهروب من مادّيّة وجودنا ومن مشيئة الله لها؟
يهوديت تقطع رأس أليفانا، كرافجيو.
هذا التّصوير الفخم لانتصار يهوديت على القائد الظّالم لا يعدّ "فنًّا مقدّسًا" وفق معايير السّيّدة وايت.
تصرّ السيّدة وايت على المثاليّة والتّعبّديّة في الفنّ المقدّس، وكلّ ما لا يحقّق هذين الشّرطين فيجب رميه في كومة التّهكّم الحداثيّ.
وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ كلاهما يبقيان محاولتين مضلّلتين جدًّا. أوّلًا، عندما تتحدّث السيّدة وايت عن «الواقع الخارق للطّبيعة والمثاليّ أي تصوّر واقعًا خلاصيًّا»، فهي تستخدم لغة فنّ الأيقونات. بالفعل، يستحقّ فنّ الأيقونات الثّناء، بخاصّةٍ التّقاليد الأيقونيّة المقدّسة عند الرّوم، والسلاف، (ناهيك عن الأرمن). بيد أنّ الأيقونات البيزنطيّة تخضع لقواعدَ، وأنواعٍ، وأنماطٍ صارمةٍ. إنّ عمليّة رسم الأيقونات والموادّ التي يستخدمها الرسّام جميعها محدّدةٌ له تقريبًا. ثمّة عاداتٌ قديمةٌ تحيط بإنتاج الأيقونات واستخدامها الطّقسيّ. وأحد الأسباب التي تجعل اللّاهوتيّين يستقون مصدرًا لكتاباتهم هو أنّ تلك العادات تحمي أرثوذكسيّة الصّور وتضمنها. أمّا الرّوحانيّة التي عزّزتها على مرّ القرون، فهي الشّيء الذي أقدّره، بل لقد حثّتني على عيش حياة المسيحيّة.
ولكنْ، ليس هذا ما نفعله في الغرب. ففي حين أنّ بعض الفنانين قد استطاعوا منحنا لمحةً عن عالمٍ متعالٍ مليئٍ بمجد الحكمة الإلهيّة (مثل مدرسة كوسكو «Cusco School» وبعض السّرياليّين الكاثوليك الذين أشرت إليهم)، بيد أنّ التّقاليد لا تلزمهم بذلك. وقد يأسف بعضهم لواقعة أنّنا طوّرنا تصوّرًا أكثر تحرّرًا للفنّ المقدّس. ولكنّني لست منهم لأنّني أحبّ التّماثيل، كما لاعتقادي أنّ الحرّيّة النّسبيّة للفنّانين كانت نعمةً هائلةً للحضارة والكنيسة.
قلب القدّيس يوسف الوديع، جيوفاني غاسبارو.
إنّ هذه اللّوحة التّعبّديّة ومثيلاتها سيكون إنتاجها مستحيلًا، إذا اتّبع الفنّ الغربيّ القواعد الصّارمة للأيقونات البيزنطيّة.
حتمًا، يمكننا التعلّم من الأيقونات، أوّلًا لأنّها تذكّرنا بما كانت عليه تقاليدنا. قبل حدوث زلزال هذا العامّ، كان لدى دير السيّدة وايت جداريّةً صوّرت هذا الإثراء الرّوحيّ من الشّرق الذي وجب على الفنّانين الكاثوليك السّعي إليه. ولكنْ، لا ينبغي علينا جعل الرّؤية الرّوحيّة للشّرق معياريّةً في الغرب، تمامًا كما نأبى فرض الأشكال الغربيّة على الشّرق. لذلك، أعترض تمامًا على محاولتها فرض الحدود الصّارمة للأيقونات على الفنّ الكاثوليكيّ الغربيّ.
ثانيًا، تزعجني المقاربات الذّرائعيّة «instrumentalist approaches» للفنّ التي تشمل التقييم الذي يعتمد على سؤال ما إذا كان المصنوع الفنّي «تعليميًّا» أو «تعبّديًّا». وهذا معيارٌ خالٍ من المعنى، وهو الأكثر غموضًا من سؤالك ما إذا كان الشّيء جميلاً أم لا، لأنّه يضع مركز معنى الفنّ وجودته في الاستجابة العاطفيّة للمشاهد، عوضًا عن واقعه المبني والطّريقة التي يتفاعل بها مع هذا البناء ذي المعايير المتعالية، عنيت الجمال.
إنّ الفكرة التي تفيد بأنّ الفنّ المقدّس يجب أن يكون (أ) «تعبّديًّا»، و(ب) في الكنيسة، هي مقاربةٌ ضيّقةٌ ومحدودةٌ، وتُفرط في اعتمادها على السّياق في الفنّ. والحقّ أنّها ليست مفيدةً إلّا في الإطار المحدود، أي لتوجيه زخرفة الكنيسة. فلو قصّرت السيّدة وايت نطاق حجّتها على ما يجب اعتباره فنًّا طقسيًّا، أي نوع الفنّ الذي يجب وضعه في الكنيسة للتبجيل وإرشاد المؤمنين في سياقٍ طقسيٍّ، لكان لديها وجه حقٍّ، لكنّها لا تشير إلى هذه المسألة. وعوضًا عن ذلك، تستخدم أعمال السيّد غاسبارو للتّفكير في الفنّ المقدّس عمومًا، ثمّ تصل إلى استنتاجها السّطحيّ ومفاده: «إنّ الفنّ المقدّس هو فنٌّ تعبّديٌّ. وإن لم يكن تعبّديًّا، فهو محاكاةٌ ساخرةٌ للمقدّس.»
فالاستنتاجات التي تستخلصها يُستحال اعتمادها كمقاربةٍ كاثوليكيّةٍ لعلم الجمال. تخيّل كمّيّة الأشعار والموسيقى التي يجب علينا إسقاطها إذا اعتمدنا معايير المثاليّة والتّعبّديّة على الفنون الأخرى.
البابا المكرّم بيوس التّاسع، جيوفاني غاسبارو.
هل سيسعى الفنّانون الحداثيّون الهراطقة إلى تصوير بيو نونو مصلّيًا؟
يجب على الكاثوليك الاهتمام بجودة فنّهم المقدّس والتزامه التّعاليم المسيحيّة. وفي هذا الإطار، يمثّل مقال السيّدة وايت هذا الاهتمام، وهو جهدٌ يقدّر لها. والحقّ أنّني والسيّدة وايت نشارك على الأرجح الاستياء نفسه من بعض النّزعات الفنّيّة والمعماريّة الرديئة في الكنيسة حاليًّا. كذلك، لا شكّ في أنّنا نشارك الرغبة نفسها في تجديد الفنون الكاثوليكيّة. لكنّ فلسفة الفنّ عند السيّدة وايت تتشابه كثيرًا مع فلسفة سافونارولا «Savonarola».وإذا كانت لا تمانع إلقاء فنّ غاسبارو بنار الأباطيل، فأصرّ على أنّه أحد أهمّ فنّاني الكنيسة الأحياء إلى جانب دانيال ميتسوي «Daniel Mitsui»، وماثيو ألدرمان «Matthew Alderman» (Matthew Alderman Studios)، وراول بيرزوسا «Raúl Berzosa»، وكين وو «Ken Woo»، وألفين أونغ «Alvin Ong»، وغيرهم. كذلك، أتّفق مع آراء ريبيكا براتين وايس «Rebecca Bratten Weiss» (Convivium Journal) في الفنون عمومًا. نحن الكاثوليك، بخاصّةٍ من يعتبرون أنفسهم تقليديّين، نكون أحيانًا مرجعيّين ذاتيًّا (وهو مصطلحٌ يفضّله البابا). وتكتب وايس:
خذ مثلًا، توني موريسون «Toni Morrison»، وهي كاثوليكيّةٌ حائزةٌ على جائزة نوبل حيث تزخر أعمالها بمواضيعَ عن المجتمع والغفران. لكنّ النقّاد الكاثوليك المعجبون بفلانيري أوكونور وغراهام غرين «Graham Greene» لا يعتبرون موريسون سوى كاتبةٍ مثيرةٍ للجدل عن العلاقات العرقيّة. وقد تجدهم يقولون: ليست كاثوليكيّةً ملتزمةً، كذريعةٍ لتجاهلها. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ كلايف لويس «C. S. Lewis» الذي يبجّلونه في دوائرهم، لم يكن كاثوليكيًّا إطلاقًا.
كذلك، ماري كار «Mary Karr» - المتحدثة الرئيسة في المؤتمر- لم تعتنق الكاثوليكيّة فحسب، بل كتبت الكثير عن فعل اعتناقها، لكنّ البعض لا يعتبرها كاتبةً كاثوليكيّةً «فعليّةً»، بسبب انفتاحها على بعض القضايا الجنسيّة. بينما كان غراهام غرين زير نساءٍ سيّء السّمعة، حيث عاشر أكثر من 300 مومس، وقد أدانه رؤساء الكنيسة في عصره، وختم روايته نهاية القضيّة «The End of the Affair» بالصّلاة الآتية: «يا إلهي، لقد فعلتَ ما يكفي، لقد سلبتني ما يكفي، إنّي متعبٌ وعجوزٌ كي أتعلّم الحبّ، اتركني وشأني إلى الأبد.»
لعلّ النقّاد المتردّدون أمام هؤلاء الكتّاب الكاثوليك الأقوياء النّاشطين الآن في وسطنا ينتظرون شخصًا آخر «ليعمّدهم»؟ أو ربّما ينتظرون أن يقول لهم شخصٌ «سمعت الله هنالك»، لأنّهم لم يتعلّموا بنفسهم الإصغاء؟ ونظرًا إلى أنّنا لا نمتلك ثقافة فنونٍ كاثوليكيّةٍ تعلّمنا الانفتاح، فنعتنق بدلاً من ذلك «خيار بنديكتوس» «Benedict Option» الذي أسيء تسميته، والمبني على وضع الجدران، والحواجز، ورسم تلك الخطوط في الرّمال.»
أوافق مع ما كتبته السيّدة وايس، كما أودّ توجيه النّقد نفسه للسيّدة وايت ومن يؤيّد نظرتها نحو الفنون. دعونا لا نقع في ذلك الفخّ المتمثّل بالخلط بين الحداثة والحداثيّة. فالمسيح ملكٌ على الجميع. لذا، دعوا الفنّانين الكاثوليك يستكشفون وفرة تلك الملوكيّة على الجميع، وفي الجميع، ومن خلال الجميع، حتّى لو بدا غريبًا في أعيننا الدّنيويّة.
المسيح الملك، جيوفاني غاسبارو.
فلنكن دائمًا في خدمته بإحسانٍ وغيرةٍ لجمال بيته.
تحديثٌ في 4/2/2020: لقد لفت انتباهي مؤخرًا أنّ جيوفاني غاسبارو الذي ناقشت أعماله في هذا المقال وأُعجبت بها في عدّة مناسبات على هذه المدوّنة، قد رسم لوحةً تكرّر الأكذوبة البغيضة المعادية للساميّة عن فرية الدّم. وأدّت هذه الكذبة تاريخيًّا إلى أعمال عنفٍ ضدّ اليهود، وبعبارةٍ أخرى إنّه موضوعٌ لا يليق برسّامٍ مسيحيٍّ، وقد أدنتها بأشدّ العبارات الممكنة. وفيما اعتبرت السيّد غاسبارو مثالًا عمّا يمكنه أن يكون عليه الفنّ المسيحيّ في عصر ما بعد الحداثة، فتأييده لتصويرٍ يليق أكثر بصفحات صحيفة دير شتورمر «Der Stürmer» النّازيّة يعني أنّني لا أستطيع مناصرته. وعلى الرّغم من ذلك، فقد قرّرت الاحتفاظ بهذا المقال على الإنترنت لأنّه يوضح بعض المبادئ المتعلّقة بالفنّ التي أعتقد أنّها لا تزال مهمّةً. وآمل أنْ يفهم قرّائي أنّها لم تعد تعكس تقييمي لقيمة فنّ السيّد غاسبارو بوصفه فنًّا دينيًّا.
___________________________
الآراء الواردة في المقال تمثل وجهة نظر كاتبها