حقل قمح وسحب رعدية، 1890
ترجمة: سارة اللحيدان
يصف معظم الناس لمسات فنسنت فان جوخ الفنية بأنها عريضة ومتعرجة، لكنه كان أكثر حيوية من ذلك. قمت في الأسابيع القليلة الماضية بالاطلاع على مجموعته الكاملة والتي ضمّت أكثر من ثمانمائة لوحة، وذلك للتعرف على كيفية رسمه وماهي التقنيات والأساليب المفضّلة لديه. وإليكم ما توصلت إليه:
فرشاة عريضة وذات توجه يوحي بالحركة
لنبدأ بأوضح نقطة: فرشاة عريضة وموجهة. تميزت معظم لوحات فان جوخ بهذه اللمسة الفنية، حيث تأخذك ضربات فرشاته بتعرجاتها، وتداخلاتها، وتحركاتها في رحلة داخل تلك اللوحة وموضوعها. وقد منح ذلك لوحاته إيحاءً فريدًا بالحركة والاهتزاز، إضافة إلى أن تكرار اتجاه ضربات الفرشاة ساعد بتشكيل الموضوع وملامحه.
مزارع يحرث الحقل، 1889
من المؤكد أن إحساس فان جوخ بالفضاء والحركة من حوله لم يكن عاديًا، وإلا لما نجحت لمساته الفنية برصد ذلك الإحساس . لنأخذ على سبيل المثال لوحته الأسطورية Starry Night ، فهو لم يدرس الفيزياء، لكنه صوّر حركة السماء واضطرابها بدقة مدهشة. (في الفيديو المرفق شرح جيد لهذه النقطة: الرابط.) ولهذا السبب فُهمت لوحاته بشكل جيد، رغم مبالغته بالتأثيرات الدرامية.
ليلة النجوم، 1889
إذا تأملت هذه اللوحة عن قرب، سترى أن ضربات الفرشاة العريضة قد خلّفت ظلالًا صغيرة وأجزاءً مضيئة على اللوحة، وأضفت عليها جودة ديناميكية ثلاثية الأبعاد. وحينما تتحرك حول اللوحة وتنظر إليها من زوايا مختلفة، سيتغير مظهرها قليلاً مع حركة الظلال الصغيرة والأجزاء المضيئة وتغدو ضربات الفرشاة العريضة ملحوظة بشكل أكبر أو أقل، (تتضح جانبًا بشكل أكبر). لاحظت ذلك الأمر عندما زرت متحف فان جوخ في أمستردام في بداية العشرينات من عمري (لم التقط صورة، آسف.) لاحظت ذلك أيضًا، وإن كان بدرجة أقل، في معرض الروائع الأوروبية هنا في بريسبان، حيث عُرضت لوحة فان جوخ The Flowering Orchard التي لم تحمل تفاصيلاً ملموسة مقارنة ببقية أعماله، إلا أنها لم تخلُ من ضربات عريضة وملحوظة.
بستان مُزِهر، 1888
التقطت هذه الصورة المقربة للوحة. هل تستطيع تمييز الظلال الصغيرة والأجزاء المضيئة في كل ضربة فرشاة؟
بإمكانك مشاهدة صورة عالية الدقة للوحة من هنا (رابط)، كما يمكنك النظر عن قرب إلى تفاصيلها.
التحديد
كثيرًا ما استخدم فان جوخ الخطوط الداكنة لإبراز العناصر، وربما يعود ذلك إلى تأثره بالفن الياباني والمطبوعات الخشبية، التي كان مولعًا بها على نحو خاص.
الأشجار الكبيرة (إصلاح طرق سان ريمي)، 1889
يعتبر التحديد تقنية بسيطة في الفن، إلا أنها قوية حينما ترغب بإبراز عنصر ما، في لوحتك. لكنها تعدّ أسلوبًا أكثر من كونها واقعية، فنحن لا نرى الأشياء في العالم محددة بخطوط داكنة ودقيقة، بل تُرسم ببساطة ليكون هناك انتقال فوري بين العنصر الواحد والألوان المحيطة به. لذلك السبب لم تحظ تقنية التحديد بشعبية بالغة بين الرسامين الميّالين للواقعية، مثل جون سينغر سارجنت، أو خواكين سورويا. حيث ركز هؤلاء على التدرجات اللونية لتحديد العناصر. مع ذلك، لا يزال التحديد تقنية قوية يمكنك إتقانها، بصرف النظر عن أسلوبك الفني في الرسم.
زهرة السوسن، 1889
أذكر أنني استلهمت تقنية التحديد لفان جوخ في لوحتي Montville, Tree in mist, 2022 فقد استخدمت الأزرق اللازوردي لرسم خطوط تميز أوراق السرخس عن الطبيعة المحيطة.
شجرة في الضباب، 2022، دان سكوت
كما استخدمتُ أيضًا تعرجات وخطوط تشبه أسلوب فان جوخ في لوحة Maleny, Late Afternoon 2020 وقمتُ برفع الدهان على السطح باستخدام عود قطني لعمل حدود مضيئة حول السحب.
بعد الظهيرة، 2022، دان سكون
نصيحة: عندما تستكشف أعمال الفنانين الآخرين، احرص دومًا على معرفة التقنيات والأساليب التي يمكنك الاستعانة بها في أعمالك الخاصة. و لايعدّ ذلك استنساخاً للعمل، لأن التقنية الواحدة ليست محصورة على الفنان، ولا ريب أن لمستك الخاصة ستكون حاضرة على اللوحة. بمرور الوقت، سيكون لديك مجموعة واسعة ومتنوعة من التقنيات المتاحة للاستخدام.
النقطية
هناك عدة أمثلة لفن التنقيط في أعمال فان جوخ، والتنقيط هو عبارة عن نقاط صغيرة أو لمسات من الألوان لتجسيد موضوع ما على اللوحة. وقد استخدمه فان جوخ عادةً في مشاهد الطبيعة المتراصّة والقريبة، مثل لوحة Undergrowth. حيث ترى الألوان تتحرك وتتراقص على القماش بلمسة واقعية، رغم أسلوبها الحاد. كما استخدم فان جوخ لمسات الألوان الدقيقة للتعبير عن الحركة والنشاط، كما لو أن العشب والأوراق تتطاير مع الريح.
شُجيرات، 1889، فنسنت فان جوخ
هناك مثال آخر على تنقيط فان جوخ في لوحة Interior of a Restaurant فقد استخدمه لإضفاء طابع حيوي على الجدران والأرضية. لاحظ كيف توحي تراكيب الألوان المتعددة بوجود تباين بين الجدران والأرضية.
تصميم داخلي لمطعم، 1887، فنسنت فان جوخ
ارتبط التنقيط بالعديد من الفنانين، مثل جورج سورا، وبول سينياك، وهنري إدمون كروس، وغيرهم، وقد حصر هؤلاء استخدامهم لهذه التقنية في العديد من لوحاتهم. لكن فان جوخ استخدمها بشكل أقل، والأغلب أنها كانت مجرد تقنية من بين عدة تقنيات أخرى. حيث نرى أنه حصر استخدام فن التنقيط للجدران والأرضية في لوحة Interior of a restaurant واستعان بضربات الفرشاة الدقيقة والألوان الخالصة لبقية العناصر. ونرى في لوحته Lilac Bush أنه جمع بين فن التنقيط والتحديد إلى جانب الأشكال الملونة الخالصة. كما قام أيضًا بتنويع طبيعة رسمه بالفرشاة لتتناسب مع الأجزاء المختلفة للموضوع. فقد استخدم ضربات أفقية في رسمه للسماء، بينما استخدم ضربات متباينة ومتنوعة في النباتات الرئيسة؛ أما العشب في الأسفل، فكانت ضربات فرشاته رأسية وملفتة.
أزهار الليلك، 1889
استخدام الألوان
بدأ فان جوخ مسيرته الفنية باستخدام ألوان مملة ومحدودة، فقد هيمن اللون الرمادي والبني على أعماله الأولى، إلى جانب الطابع الحزين فيها.
لوحات من بدايات فان جوخ
ثم اكتشف فان جوخ الألوان في بداية الثلاثينيات من عمره، وكان ذلك في حوالي عام 1886، ومضى قدمًا في استخدامها. ولو اضطررت لاختيار نقطة التحول في مسيرته ، فستكون لوحته Le Moulin de la Galette، بألوانها الغنية باللون الأزرق والأحمر والبرتقالي والأخضر.
مطحنة جاليت، 1886
يستطيع فان جوخ في أفضل حالاته، أن يبالغ باستخدام الألوان إلى أقصى حدّ ممكن دون أن تبدو لوحته مبهرجة أو متكلفة. وقد أسهمت مواضيع لوحاته واتباعه لنمط الألوان القوية والمنطقية في إنجاز ذلك الأمر. فلربما استخدم ألوانًا دافئة و مشرقة لغروب الشمس، واستعان باللون المشبع بالزرقة لسماء منتصف النهار الصافية، واللون الأخضر اللامع للنباتات وأوراق الأشجار. وعلى الرغم من مبالغته في مواضيع لوحاته وأسلوبها، إلا أنه حافظ دومًا على اتصاله بالواقع.
قوارب الفحم، 1888
جدير بالذكر أيضًا، أنه كان مولعًا باللون الأصفر. إذ نجد في العديد من لوحاته تقديرًا جليًّا لتألق اللون الأصفر.
من لوحات فان جوخ الصفراء
حقل قمح وشمس، 1889
وبالأخص لوحة Wheat Field with Reaper and Sun المذهلة. حيث يتوهج اللون وكأنه ضوء الشمس بالفعل. كما ذكر اللون الأصفر في العديد من رسائله، حيث يصفه دومًا بحيوية بالغة. في رسالته لإحدى أخواته كتب: ( نستمتع حاليًا بطقس دافئ وجميل لا رياح فيه وهو يفيدني للغاية. الشمس، ذلك الضوء الذي أعجز عن وصفه إلا بكلمة أصفر، هو أصفر كبريتي مشرق، ذهبي ليموني باهت. ما أجمل اللون الأصفر!) - فنسنت فان جوخ رسالة إلى أخته- 1888 (المصدر)
سرعة الإنجاز
عمل فان جوخ بشكل سريع، حيث أنتج خلال عقد من الزمان أكثر من ألفي رسمة ولوحة فنية. وحفلت سنواته الأخيرة بإنتاج غزير، حيث قدم العديد من لوحاته وأشهرها لوحتي Cafe Terrace at Night و Starry Night. بدا وكأنه تعرض لموجة من الأفكار الإبداعية وتحتم عليه نقلها إلى القماش، خاصة وأنه علم أنه لا يملك الكثير من الوقت للعمل. وربما يكون مردّ هذه السرعة إلى القيود المالية، حيث أن سرعة استخدام الدهان تقلل من الهدر والتكلفة.
شرفة مقهى في الليل، 1888
أضاف ذلك النهج السريع سحرًا لأعماله، فهناك شعور بالعفوية والصدق فيها، وكأنه لم يملك الوقت الكافي لصقل أفكاره ومفاهيمه، واهتم بنقلها إلى القماش فحسب. ربما أثر هذا النهج السريع على اختياره للأدوات والتقنيات. فقد قام بكل ما هو ضروري لإتقان العلامات المطلوبة. شمل ذلك استخدام سكاكين الرسم، وأصابعه، ووضع الدهان مباشرة من الأنبوب إلى القماش، وفرش قديمة بالية، وخلط اللون على القماش، والنهاية غير الحادة للفرشاة، وذلك هو النهج الرائع لاستخدام أدواتك. كن منفتح الذهن وتذكر أن الحدود الصارمة لاوجود لها في الفن. إياك أن تحدّ تفكيرك باستخدام "أداة معينة" لرسم "شيء معين" (مثل فرشاة المروحة لرسم الأوراق.)
بيوت من القش، 1890
ولا ريب أن هذا النهج لن ينجح مع الجميع، فالأيدي المبتدئة ستصاب بالإحباط وتخلّف فوضى على القماش. إذ يجب أن تملك الحدس والخبرة الكافية من أجل أن ترسم بسرعة، أو ربما تفضّل السير على نهج أكثر تحكمًا ودقة، وهو أمر جيد أيضًا.
العاطفة والأسلوب
امتازت أعمال فان جوخ بأساس عاطفي قوي، فهو لم يرسم ما يراه وحسب؛ بل رسم أيضًا مشاعره وتجاربه التي مرّ بها على اللوحة. ولهذا السبب تبدو أعماله انعكاسًا صادقًا لمن يتأملها.
الدكتور بول جاشيت، 1890
إذ توحي لوحاته بأنه كان حساسًا للغاية تجاه العالم من حوله وما يحمله من مشاعر وعواطف . أتصور أنه شعر بما حوله بقوة بالغة، حيث تفاوتت أعماله بين بورتريهات حزينة للغاية إلى مناظر طبيعية ملونة ومبهجة. نصيحة: الملاحظة جزء أساسي من تكوينك الفني. من المهم ألا تقتصر ملاحظتك في مراقبة العالم المادي من حولك، بل تمتد أيضًا إلى الغوص في مظاهر الحياة الدقيقة، مثل المزاج،، الجو، والمشاعر.
موضوع مشابه، وظروف مختلفة
هناك عدة أمثلة على قيام فان جوخ برسم الموضوع ذاته مرارًا وتكرارًا تحت ظروف مختلفة. نلاحظ أدناه بعض لوحاته للبساتين من عام 1888. ربما كان يدرس التغيرات في الضوء واللون، أو ربما كان يريد أن يلتقط مظاهر أخرى مختلفة من الموضوع نفسه. قام كلود مونيه بنفس الأمر، ولكن على نطاق أوسع وباهتمام بالغ وواضح باللون والضوء. أرى أن فان جوخ كان مهتمًا أكثر باستكشاف عاطفة وسمة الموضوع أكثر من دراسة اللون والضوء. يجدر بك أن تلقي نظرة على هذه القائمة الزمنية للوحات فان جوخ (الرابط)، لترى المواضيع الشائعة والأنماط والأفكار الأخرى التي كان يكررها.
لوحات بساتين لفان جوخ، 1888