التنقيطية: قوة اللون النقي

single

سارا مارين

ترجمة: مشاعل مجرشي

 

«ببضع خطوات للخلف، تتلاشى التقنية المستخدمة ولا ترى العين سوى جوهر اللوحة» - فيليكس فينون   

عادة ما تُعرّف التنقيطية بكونها حركة فنية، وهي تقنية رسم مبتكرة وسعت في استكشاف الألوان المتعددة التي قدمها الانطباعيون. صيغ المصطلح في البداية سخرية بالإشارة إلى أعمال جورج سورا والمكونة من نقاط صغيرة ملونة. ولكن سرعان ما صار مصطلح (التنقيطية) مرتبطًا على نطاق واسع بأعمال الفنانين الانطباعيين الجدد وغيرهم من فناني ما بعد الانطباعية.  العلوم عامة والبصريات خاصة، تشكل جوهر اللوحات التنقيطية، والتي خطط لها ونفذت بدقة استنادًا على أحدث نظريات الألوان المبتكرة في ذلك الحين، على الرغم من أن قلة من الفنانين سيميلون لاحقًا إلى نهج أساليب أكثر عفوية، والتي مهدت الطريق لتطوير المدرسة الوحشية. 

 

التنقيطية: المفهوم والأسلوب

في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر، بدأ الفنانون الانطباعيون الجدد ينحرفون عن بعض مبادئ الانطباعية. على الرغم من أنهم صوروا موضوعات متشابهة وشاركوا في نفس هدف الانطباعيين المتمثل في تصوير الظواهر البصرية من خلال الرسم (اللوحة)، إلا أن مجموعة من الفنانين بقيادة جورج سورا اتجهوا نحو تقنية علمية دقيقة، حيث استبدلوا اللمسات الانطباعية السلسة والشاعرية بنقاط صغيرة متميزة أو ببقع من اللون النقي وغير الممزوج. 

بنيت التنقيطية على دراسة البصريات واعتمدت على أحدث النظريات حول اللون. من المعرف أن جورج سورا وبول سينياك كانا على دراية بعمل الكيميائي الفرنسي مشيل شفرول والذي قدم بحثه في كتاب (مبادئ التناغم والتباين في الألوان، وتطبيقاتها في الفنون_ 1855م) حيث ادعى بأن تجاور الألوان يمكنه تحقيق أقصى درجات السطوع/اللمعان الممكنة. ترجم الفنانون الانطباعيون الجدد أفكاره إلى تقنية جوهرية نقطية: بدلًا من مزج الأصباغ المختلفة على لوحة، جعلوها تتفاعل بصريًا من خلال عدد لا حصر له من النقاط الصغيرة على القماش، مما ينتج عنه أشكالًا متجانسة ومميزة إذا نظرت إليها من مسافة. 

بعد ظهيرة يوم الأحد، 1884-1886، جورج سوارت

 

كان الناقد الفني والمحرر والتاجر الفرنسي فيليكس فينيون هو من ابتكر كلًا من المصطلحين (الانطباعية الجديدة) و(التنقيطية) كما أنه وصف أعمال سورا بـ (اللوحة النقطة). على الرغم من أن سورا كان يفضل التسمية (التقسيمية) أو (الزمن- ضوئية) إلا أن تسمية فينيون هي التي اعتمدت. في عام 1890م رسم فينيون بريشة بول سينياك، وأصبح واحدًا من أعظم الداعمين والمدافعين عن الفنانين الانطباعيين الجدد وأسلوبهم النقطي المميز، ولولا جهوده الدؤوبة لما كنا قد نعرفهم وأعمالهم كما اليوم.

 

فنانو التنقيطية ولوحاتهم

على الرغم من أن كلًا من جورج سورا وبول سينياك كانا القوتان الدافعتان الرئيسية للتنقيطية، إلا أن هناك العديد من الفنانين انتهجوا أسلوب التنقيطية بدرجات مختلفة، بدءًا بالانطباعي كاميل بيسارو وابنه لوسيان، وصولًا إلى فينسنت فان جوخ والذي تبنى التنقيطية خلال تواجده في باريس بين 1886م و 1888م وكذلك بعد سنوات، فنانون مثل فاسيلي كاندينسكي وهنري ماتيس وبيت موندريان وبابلو بيكاسو في مرحلة مبكرة من مسيراتهم الفنية. 

في نهاية الثمانينات من القرن التاسع عشر، بدأ مجموعة من الفنانين الإيطاليين في شمال إيطاليا -والذين سيعرفوا لاحقًا باسم الانقساميون الإيطاليون- باستخدام تقنية رسم متأثرة بذات الطريقة فيما يخص البصريات ونظريات الألوان. من بينهم من ابتكر بعضًا من أبرز أعمال المجموعة المحملة بالأفكار الفلسفية والسياسية وكذلك التطلعات الأركادية الصوفية، كلًا من جيوفاني سيجانتيني وجوزيبي بيليزا-دا فولبيدو وأنجيلو موربيلي.

فيما يلي مقدمة حول الفنانين الذين ساهموا في تشكيل هذا الأسلوب وبعض أشهر أعمالهم.

 

جورج سورا

أحد أبرز الفنانين الرائدين في الانطباعية الجديدة و-أبو- تقنية التنقيطية. ولد الرسام الفرنسي جورج بيير سوارت (1859-1891) لعائلة ثرية وتلقى تدريبه في مدارس فن تقليدية مختلفة، وكانت أول تجاربه القريبة من التنقيطية في مجال الرسم بخاصية الفحم الصلب، وبالتحديد باستخدام قلم الكونتيه، حتى انغمس بعد ذلك في لوحاته الكبيرة المعروفة. فيما يخص موضوعاته فقد صور في الغالب حياة المدينة الفرنسية في القرن التاسع عشر والمشاهد الطبيعية مع ميله للمناظر الساحلية.

خلال مسيرته القصيرة، ابتكر جورج سورا بعضًا من أكثر الصور شهرة في القرن التاسع عشر، مثل "السباحون في آسنيير 1884" و"يوم الأحد في لاغراند جات 1884/1886" إذ ابتعدت كلتا اللوحتين عما هو معتاد عليه في القانون الفني في الأكاديمية، وعرضت اللوحة الأولى في المعرض الأول لجمعية الفنانين المستقلين عام 1884م التي أسست من قبل سورا وبول سينياك وآخرين، في حين عرضت اللوحة الثانية في المعرض الانطباعي الأخير عام 1886م.

جورج سورات، السيرك الثانوي، 1887-1888

 

السيرك الثانوي 1887/ 1888م

يعد هذا العمل مثالًا رائعًا إذ أنه يبرز قدرة سورا على تصوير أوقات الترفيه، حيث تصور اللوحة مشهدًا خارجيًا ليليًا تحت ضوء اصطناعي، صُوّر خلاله العرض الثانوي لسيرك كورفي في معرض بيع كعك الزنجبيل في باريس* 1887م حيث كانت تقام عروض ومشاهد فنية خارج خيمة السيرك لجذب المارة.

*معرض يقام سنويًا في فرنسا.

 

بول سينياك

يعد الرسام بول سينياك والذي أقام في باريس (1863- 1935) إلى جانب جورج سورا أحد أهم الفنانين الانطباعيين الجدد، دخل إلى عالم الفن نتيجة لقاءاته في ملهى (لي تشات نوير) في مونمارتر، إذ كان يتردد على الأوساط الأدبية الرائدة. بدأ سينياك بوصفه فنان انطباعي لكنه منذ لقائه بسورا انتقل إلى الأسلوب التنقيطي، مساهمًا لدرجة كبيرة في تطوير هذا الأسلوب. بعد وفاة سورا، لعب سينياك دورًا حاسمًا في نشر أسلوب معلمه من خلال كتابه النظري الذي كتبه (من يوجين ديلاكروا إلى الانطباعية الجديدة) 1899م.

 

بول سيناك، نوتردام دو لا غارد (لا بون مير)، مرسيليا، 1905/6

 

كان بول سينياك مولعًا برسم المناظر الطبيعية أكثر من حياة المدينة الصاخبة، واستخدم أسلوبًا أقل دقة مقارنة بزميله جورج سورا كما يظهر جليًا في عمله  Notre-Dame-de-la-Garde

حيث تتكون فيه اللوحة من ضربات مستطيلة تشكل صورة نابضة بالحياة قابلة للمقارنة مع الأمثلة الأولية للمدرسة الوحشية. تظهر اللوحة صلات الفنان بكلًا من هنري إدموند كروس وماتيس - الذي عرض مؤخرًا لوحته  Calme et Volupté الرفاهية والهدوء والنعومة. في الواقع، صار سينياك مناصرًا للمدرسة الوحشية، خاصة من خلال دعمه لأعمال ماتيس. في وقت لاحق من حياته المهنية، بدأ في الإبحار حول أوروبا وتصوير مناظرها الطبيعية من خلال لوحات بألوان أكثر جرأة، كما يظهر ذلك في أعماله المتأخرة بألوانها الزاهية وضربات الفرشاة الكبيرة.

 الشاطئ في سان كلير 1896. بواسطة هنري إدمون كروس

شاطئ سان كلير، 1896، هنري إدمون كروس

هنري إدمون كروس

الرسام الفرنسي هنري إدمون ديلاكروا (1856 – 1910)، والذي قرر في وقت لاحق تغيير لقبه إلى "كروس" للتمييز بينه وبين الرسام الشهير يوجين ديلاكروا. انتقل من لِيل إلى باريس في العام 1881 وأقام أول معرض له في الصالون (Salon). كان أحد مؤسسي جمعية الفنانين المستقلين ثم صار صديقًا للكثير من الفنانين الشركاء في الحركة الانطباعية الجديدة، بما في ذلك سورا وسينياك. ومع ذلك فإن انتقاله في لوحاته من أسلوبه الواقعي ذو الألوان الداكنة إلى الأسلوب الانطباعي الجديد في أعماله التنقيطية وبالألوان الزاهية كان قد حدث بالتدريج. في الواقع، عام1891 –عام وفاة سورا- استقر كروس نهائيًا في سانت كلير وبدأ في رسم لوحاته التنقيطية الأولى، مسافرًا أحيانًا إلى باريس لعرض أعماله الجديدة في صالون الفنانين المستقلين.

 

نسمات المساء، 1893، هنري إدمون كروس

 

نسمات المساء (1893)

بعد عامين في جنوب فرنسا، كان كروس قد رسم بالفل مجموعة متنوعة من المناظر البحرية –تمامًا كما فعل بول سينياك- ولكن من بين جميع المناظر الساحلية التي رسمها، للوحة "نسمات المساء" معنى خاصًا. فكر كروس بفكرة العمل بناء على اقتراح من سينياك كزينة للاحتفال بالأجواء المتجددة في ريفيرا الفرنسي وعليه قرر كروس رسم مجموع من لشخصيات مستلقين في الضوء الخافت لغروب الشمس،  موزعين في تكوين كلاسيكي. توضح اللوحة كذلك انتقال كروس من استخدام نقاط صغيرة من اللون إلى ضربات فرشاة مستطيلة أكبر، تشبه العمل الفسيفسائي والتي أثرت لدرجة كبيرة على المدرسة الوحشية. في الحقيقة، أهدى كروس اللوحة إلى سينياك، والذي علقها في منزله في سان تروبيه، حيث رآها هنري ماتيس فاستخدمها كـ إلهام لعمله (الفخامة والهدوء والمتعة)
 

 

كاميل بيسارو

كاميل بيسارو (1830-1903) رسام دنماركي ولد في الدنمارك وعاش في باريس، كان  في معظم مسيرته الفنية مدفاعًا عن الانطباعية، كما أنه عاش فترة قصيرة كان فيها فنانًا ينتمي للانطباعية الجديدة، التقى بالشاب الفنان جورج سورا في فعاليات الانطباعية عام 1885. وبتشجيع من ابنه لوسيان، تبنى بسرعة أسلوب التنقيطية لكن بطريقته الخاصة. ومع ذلك، وبعد تجربة لعام واحد فقط قرر بيسارو التخلي عن التنقيطية لنقصها إلى العفوية مع بقاء بعض من سماتها التي استمرت في أعماله اللاحقة مثل تباين الألوان التكميلية. 

فلاحات يجمعن الأعشاب، إيراجني، 1886، كاميل بيسارو

 

كان كاميل بيسارو مولعًا بالمناظر الريفية مع اهتمام خاص بالأشخاص الذين عاشوا وعملوا في تلك الأراضي. في عام 1884 انتقل مع عائلته إلى قرية إيراجني، حيث نتج عن اكتشاف محيطهم الجديد، سلسلة من المناظر الريفية مثل عمل نساء فلاحات يجمعن الأعشاب، إذ يظهر جليًا تأثير جان فرانسوا ميليت. أتاح أسلوب التنقيط للفنان إلقاء الضوء والظلال على المروح بدقة مقارنة بضربات الفرشاة الواسعة السائدة في الانطباعية.  

 


 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي