مقدمة في الرومانسية

single

توماس دوتي، على الشاطئ، 1827-1828

 

فرانسوا-خافير ترانكارت

ترجمة: مروان الرشيد

 

الرومانسية (Romanticism) هي إحدى المنعطفات الأكثر تأثيرًا في تاريخ الفن، إذ كان لها تأثير اجتماعي وفكري وفني وأدبي في وقت واحد. إنها تُمثِّل أولى الرغبات في التغيير والتجديد، وهذا ليس بالأمر المفاجئ بالنظر إلى أنها حدثت قُبيل الثورة الفرنسية عام 1789. في هذه المقالة، ستكتشف كل ما تحتاج لمعرفته حول هذه الحركة التي هزت أوروبا.

أصول الرومانسية

henry fuseli the nightmare

هنري فوسيلي، الكابوس، 1781

بدأت الرومانسية في أوروبا الغربية، حوالي منتصف القرن الثامن عشر. في هذا الوقت، كانت الحركة الفنية والثقافية المهيمنة هي الكلاسيكية الجديدة، التي تستوحي إلهامها من جماليات الحضارات القديمة. والكلاسيكية الجديدة تُقدِّر النِّظام وضبط النفس، وتعتزُّ بالقيم المثالية. لذا تُقدِّم الرومانسية نفسها على أنها قطيعة واضحة مع هذه المُثُل القديمة؛ فمن الآن فصاعدًا، فإن العواطف والمشاعر الشخصية هي ما يجب أن تكون موضع التفضيل. 

لم تكن هذه قطيعةً فنيةً أو ثقافيةً وحسب؛ فمع تطور التصنيع والحداثة، هدفت الرومانسية إلى أن تكون الأمل الأخير لمناهضة التقليدية وتعزيز الفردية بل وتعزيز عدم النُّضج أيضًا. ومن ثم فإنَّ هذه القيم، التي روَّج لها الفنانون والمثقفون، كانت محاولة لمواجهة البرود والفتور التي يتصف بها الفن الحداثي والأكاديمي. فقد أراد هؤلاء الفنانون أن يركِّزوا على الغريزة، عِوضًا عن العقل. وفي واقع الحال، نجد أن الشاعر الألماني فريدريش شليغل هو أول من استخدم كلمة «الرومانسية» تعريفًا للأدب «الذي يصور المادة العاطفية في شكل خيالي».

الفن الذي يستثير العاطفة

romanticism art turner venice the piazzetta

جي إم دبليو تيرنر(1775-1851) البندقية، ساحة المدينة أثناء حفل زواج الدوق من البحر، 1835

كان للرومانسية تجلياتها المختلفة في أوروبا. في إنجلترا، كان الفنانون الذين ترأسوا الحركة الرومانسية هم كاسبار ديفيد فريدريش، وويليام تيرنر، وجون كونستابل. وكانت أعمالهم الأساسية هي المناظر الطبيعية، وتتصف بالسريالية والفوضوية في نفس الوقت. المناظر الطبيعية لتيرنر -على سبيل المثال- تشهد على تجريبيته في الضوء والألوان. يطمس تيرنر الحدود بين الأجزاء المختلفة من لوحته؛ وهذا يعطي انطباعًا عن أن موضوعه يقع بين الحلم والواقع (وفي الحقيقة، غالبًا ما يُعدُّ إرهاصًا للانطباعية!). ولا يمكن تمييز إلا بعض الأشكال، أما الباقي فهو متروك لخيالنا. في مجال الأدب، يُجسِّد شعراء -مثل ويليام وردزورث- الطبيعة ويسبغون عليها صفات روحانية، على نحو بعيد كل البعد عن واقعية التقنية الناشئة. وهكذا فإن هذا المناخ يُظهِر رغبة الرومانسيين في أن يُشارِكوا مشاعرهم التي يحسونها تجاه موضوعهم، بدلًا من تصويره تصويرًا دقيقًا وصارمًا.

صورة الشاعر النَّاقِم

romanticism art caspar friedrich wanderer above sea fog

كاسبار ديفيد فريدريش، جوَّال فوق بحر من الضباب، 1818 

في فرنسا، جُسِّدَ الفنان الرومانسي في شخصية المُتسكِّع (flaneur). عادة ما يكون هذا الفنان شاعرًا فاشلًا، يتجاهل الأعراف ورأسمالية الحياة الحديثة المزدحمة. إن هذا الفنان هو الشاعر تشارلز بودلير، الذي يمثل المُتسكِّع المراقب المنفصل عن المجتمع. وفي هذا النشاط، يجد الإلهام اللازم لجعل مشاعره تتحدَّث بحرية.

في إسبانيا، يُقارب فنُّ فرانسيسكو دي غويا الرومانسية مقاربة معينة إلى حدٍّ ما: من جهة القلق والخيال، وحتى الجنون. وفي كثير من الأحيان تُسمى هذه الرومانسية: «الرومانسية المظلمة»، حيث تجد الشخصيات نفسها في مواجهة شياطين هائلة مخيفة. وهذا النوع من اليأس شائع في الأعمال الرومانسية؛ وهو صادر عن وقلق وعقل منصرف عن الأعراف المعاصرة، ولكنه يساعد أيضًا في استجلاب الإلهام. ومن ثم فإن الرومانسيين لا يخفون معاناتهم، وإنما يُحولونها إلى مصدر مذهل للإلهام.

الانتقال نحو الحداثة

art romanticism delacroix liberty

أوجين ديلاكروا، الحرية تقود الشعب، 1830

سينتهي الأمر بمبادئ الرومانسية إلى أن تكون المصدر الطبيعي للحركات المتتالية في ذلك الوقت، ولا سيَّما الواقعية والانطباعية. وسيؤدي استكشاف مشاعر الفنان إلى الانطباعية، التي تستند -بالطبع- إلى الفن بوصفه «انطباعًا». ولكن قبل كل شيء، ستنقل الرومانسية في فرنسا لأول مرة بعض التناقضات الاجتماعية والسياسية إلى الفن التصويري. ومثلما أن الرومانسية عارضت القواعد الأكاديمية، نرى أن الواقعية رفضت المثالية البرجوازية. وأعمال غوستاف كوربيه هي مثال على هذا الجيل من الفنانين الذين اهتموا اهتمامًا عميقًا بالناس والحياة اليومية الحقيقية والفجة.

هذا الانخراط السياسي دائمًا ما كان -في واقع الأمر- كامِنًا في الرومانسية. وبالفعل، فإن زعيم الحركة المُعْتَبَر، أوجين ديلاكروا، يعالج -بالفعل- هذه الأفكار بحذر في الحرية تقود الشعب، على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن الواقعيين يأخذون على الرومانسيين بأنهم لا ينتجون إلا «فن من أجل الفن»، وأنهم منفصلون عن واقع الوجود الإنساني. وهكذا، فإن الواقعية والطبيعية في الأدب ستحل ببطء محل الطيش العاطفي الذي تتصف به الرومانسية.

ليس من المستغرب أن تظل الرومانسية اليوم موضوعًا شائعًا جدًّا؛ ففي الأدب أو الفن المعاصر نجد قيم الحساسية العاطفية والذاتية في صميم العديد من الأعمال الرائعة. علاوة على ذلك، فإن شخصية الفنان النَّاقِم والمنفصل عن المجتمع ليست شخصيةً نادرة، كما أنها لا تزال تحظى بالتمجيد في الوقت الحاضر.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي