جاك داريولا[1]
ترجمة: بشاير صالح
ليست فلسفة الفن الجانب الوحيد الذي نتناول به الفن، فجوانب الفن الأخرى أوجه ممكنة لتناوله، وهي وفيرة بقدر ما يثير فينا الفن الرغبة في الحديث.
بادئ ذي بدء، يمكننا تناول الفن من جانبه التِقنيّ، فنحن نتعلم احتراف مادة أو آلة (مثل مزج الألوان مع مذيب، أو لوحة مفاتيح البيانو) لكي نستطيع التمتع بكل إمكانياتها. وحين يكون للفن تِقنيّة فهو حرفة، ونحن قد نتحدث عن "حِرف الفن"، وبذاك يصبح الفن نفسه مرادفًا للتِقنيّات، مثلما نتحدث عن "مدرسة الفنون والحِرف". وفي اللغة اليونانية يسمى الفن « tekhnê » ومنه جاءت مفردة تِقنيّة (technique). أما في عصر النهضة، فقد طالب الرسام، مع إدراكه لما نسميه "عبقريته" بأن يُدرج فنّه (الرسم) ضمن الفنون المتحررة (liberal arts) عوضًا عن اعتباره ضمن الفنون الميكانيكية (mechanical arts)، وغرضه من ذلك أن يتميز الفنان عن الحرفيّ والعامل.
ويمكننا أيضا تناول الفن من جانب الحوار والعرض، فذلك هو مناط علم المتاحف (لم تظهر مفردة muséologie -علم المتاحف إلا في منتصف القرن العشرين)، وهو علم تطور تطورًا عظيما منذ منتصف القرن العشرين. وولدت فكرة "المتحف" إبان الثورة الفرنسية، إذ استُبدلت المجموعات الأميرية والخاصة التي عُدت علامة على النفوذ والغنى، بمساحة شاسعة عامة وجمهورية، تُجمع فيها كل الأعمال التي توثق تاريخ الفكر الكوني، بغية تعليم الإنسان.
ويمكننا علاوة على ذلك تناول الفن من جانب علمي، مثل تحليل كيميائيات الأصباغ الملونة، والتثبت من مصدر اللوحات من خلال الأرشيفات، أو من خلال سمات الفنانين، أو من خلال التصوير بالأشعة تحت الحمراء (الأشعة السينية) للوحات التي يظهر عليها شيء من الترميمات. وتُتّبع هذه الطرق للتمييز بين الأصيل والمزيف. وللاستزادة هناك كتاب كامل حول الموضوع بقلم مادلين هورس (أدارت معمل متحف اللوفر فترة بعد الحرب العالمية الثانية)، والذي يشرحه عنوانه الثانوي المكتوب على هيئة شعار: أسرار الأعمال الفنية. العمل الفني مادة قبل أن يكون رسالة.[2]
وحتى الآن، رأينا العمل الفني بوصفه صنيعًا (العمل الفني مادة)، لا بد أن يُنتَج (تِقنيّات الفن)، ويُحفَظ (علم المتاحف)، ويوصَف (التحليل العلمي للمواد)، غير أننا نستطيع أيضا أن نتساءل حول معنى العمل الفني (العمل الفني رسالة)، أي الأفكار التي يعبر عنها. وفي سبيل معرفة ذلك، تأتي الأيقنة (iconographie) لتعرّف الثيمات التي يقدمها العمل (جوديث تحمل رأس هولوفيرن، أو سالومي تحمل رأس يوحنا المعمدان)[3]، وتضطلع الأيقنة بفك شفرة الاستعارات والرموز المستعملة، ويربطها علم الأيقونات (iconologie) بسياقها الثقافي (جاء تعريف هاتين الطريقتين في نص شهير لإروين بانوفسكي، عنوان مقدمة كتابه مقالات في علم الأيقونات)[4]. وينسِب علم الاجتماع هذه الأفكار إلى الطبقات والأوساط المختلفة التي كوّنت مجتمعات صغيرة داخل المجتمع[5]. أما التحليل النفسي فهو لا يربطها بالمجتمع، بل بالفرد، أي بالحياة الداخلية للفنان، وتبعًا لرغباته الواعية وحتى غير الواعية التي تحرّكه (لفرويد مقالة مشهورة في هذا السياق حول ليونارد دافينشي، ومقالة أخرى حول تمثال موسى لمايكل أنجيلو).
والآن ماذا عن فلسفة الفن؟ فمع كل هذه الجوانب التي تناولت الفن (التقنيات وعلم المتاحف والعِلميّة والأيقنة وعلم الأيقونات وعلم الاجتماع والتحليل النفسي وما إلى ذلك) لمَ علينا أن نضيف أيضا جانبًا فلسفيًا؟
تنطوي الفلسفة على معنيين. ففلسفة الشيء تعني بدايةً البحث عن أساسه، والعودة لجذوره. وإذا ما أخذنا التشبيه المشهور لديكارت (الرسالة التمهيدية لمبادئ الفلسفة، 1644) فعلى الفلسفة أن تحرص لا على فروع الشجرة وحسب، بلى على جذورها (وهي ما نسميها الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا). ولهذا السبب لا تتقدم الفلسفة مثلما يتقدم العلم، فالعلم يتفرع ويتعقد إلى مالا نهاية، بينما تتقدم الفلسفة بتراجعها، بعودتها إلى الأصل، وبالذهاب نحو الأبسط. ففي الفلسفة، دائما ما يكون الأبسط هو الأصعب. غير أن الفلسفة في معناها الثاني، هي التفكير المستقل، أي عدم الانصياع إلى أي سلطة قد تقيد حريتنا في الوصول إلى الحقيقة، وعدم القبول بأي حقيقة لا نستطيع إثباتها بتفكيرنا الفردي. ويمكننا القول إن الفيلسوف لا يحصل إلا على ما هو مستعد أن يقدمه لنفسه. والفلسفة هي مثلما أوضحها كانط جاهدًا في نهاية القرن الثامن عشر، تلبيةٌ لحتمية الحرية، وتتطلب استقلاليةً في الفكر أو ما نسميه العقل.
وإذًا، فالبحث عن الأسس، والتفكير المستقل: كيف تتمثل هاتان الحتميّتان اللتان هما في صميم الفلسفة عمومًا، حين تسيّران فلسفةً مثل فلسفة الفن؟
مسألة الأسس.
في الجوانب التي عددناها، جاءت مسألة وجود العمل الفني من الثوابت، والفيلسوف على خلاف ذلك يرمي إلى اقتفاء أصل العمل الفني. و"أصل العمل الفني" (L’origine de l’œuvre d’art) هو في الواقع عنوان لمؤتمر شهير لهيدجر عقد في عام 1935، وتجدونه في مجلد عنوانه Chemins qui ne mènent nulle part (دار غاليمار). وفي الحال الطبيعي، نحن نعترف بالعمل الفني على أنه عمل فني بفضل بريق جماله، لا بفضل منفعته. ولهذا تتساءل الفلسفة عن الأصل، وعن أساس هذا الجمال. ولنلاحظ هنا أن العمل الفني لا يحتكر الجمال، فنحن نصف الطبيعة بالجمال كما نصف اللوحات بالجمال دونما فرق. والطبيعة شأنها شأن الفن، في مقدورها استثارة الجمال. وهذا في الحقيقة مبحث من مباحث فلسفة الفن، وهو التحقق مما إذا كان الفن "يحاكي" الطبيعة، وبكلمات أخرى، إذا ما كان الجمال الذي تصنعه يد الإنسان يحمل في جذوره الجمال الأولي الموجود في الطبيعة. غير أنه يمكن القول أيضا أن الفن الإنساني لا يحاكي الطبيعة، وإنما ما وراء الطبيعة، المُثل الخالدة، أو الأفكار التي كان لها -وفقًا للإغريقيين- وجود حقيقي في عالم لا يمس به، وأن أفكار الإنسان وحدها، لا مشاعره، قادرة على تمييزها. وهذا ما قاله شيشيرون في خطبته[6] عن أن فيدياس، حين عمل على تمثال زيوس في أولمبيا، أو تمثال أثينا في البارثينون "لم ينظر إلى شخص محدد، أي إلى شخص ليحاكيه في تمثاله، وإنما كان متمثلا في فكره التمثيل الجليل للجمال". كما قال أفلوطين عن فيدياس: "نحت فيدياس تمثال زيوس دون نموذج محسوس، لكنه جعله على الكيفية التي قد يبدو عليها زيوس لو أنه أظهر نفسه لنا"[7]. ويرى الإغريقيون "الفكرة" بمثابة تمثل للعقل (Noûs)، غير أن نموذجها الميتافيزيقي يمكن أن يكون رؤية غامضة تتخطى حدود الذكاء البشري. وهذا ما تدل عليه الأيقونات البيزنطية التي تسمى (أكيروبيتا) (Acheiropoieta)، ومعناها في الإغريقية: ما لم تصنعه يد الإنسان، والتي يبدو أن نموذجها ومنشأها ينبعان من رؤية ميتافيزيقية. وعلى كل، فإن نسبة الجمال الفني إلى جمال الطبيعة، أو إلى أفكار العقل، بل حتى إلى التجليات، لا يعتبر وصولًا إلى الجذور، وإلا فما هو أصل جمال الطبيعة نفسها؟ أو أصل أفكار العقل؟ أو أصل التجليات؟ فالبحث عن الأسس أو الأصل، لا ينتهي إلا بمعرفة النموذج الأولي الخالص.
ومقارنة بمسألة الجمال التي هي لغز في طبيعتها، فإن مسألة أصل الجمال أكثر وضوحا بجانبها. فالجمال غامض. ويحملنا على الظن بأنه ينطوي على سر. وهو في آن واحد بيّن وخفي، جلي ومستتر، يظهر بكامل بريقه ويخفي رغم ذلك حقيقته. وهو لا يكتفي بجعلنا نعتقد أن سره ينبع من خفائه، بل يأخذ بنا، على نحو أبلغَ في التأكيد والتناقض، إلى الاعتقاد بأن سرّه يكمن في زهوّه وتباهيه، فغموض الجمال يتزايد كلما ازداد وضوحه، وكلما تفاخر بنفسه مزهوًّا. وبغية وصف هذا الإرباك الذي يستحثه فينا الفن، نجد أن العصر الكلاسيكي يذكر حالة: « je ne sais quoi » "لا أعرف ماهو"[8]. وسنقول إذ ذاك إن الجمال لا يتصل بعالم الواقع -الملاحظة المجردة للشيء المحسوس- وإنما بعالم الرموز. فواقع الشيء هو ما يكون الشيء عليه، وكيف يُرى، بينما الرمزية لا تُعنى بما هو الشيء، بل بما يعنيه، وما يدلّ عليه. ولذا فإنه لا يكفي للإمساك بجمال لوحة أن نصف مادتها المجردة – كتلة ملونة بدرجات متفاوتة على لوح –، مثلما أننا لا نكتفي لإدراك جمال حيوان ما بأن ندرس علم التشريح، أو لإدراك جمال الطبيعة بأن ندرس الجيولوجيا. فالمظهر الجميل لا يتعلق بماهية الشيء، وإنما بما يدل عليه وما يمثله.
غير أنه يتعين التفريق بين (الإشارة - sign) التي تحمل معنى اعتباطيًا تمامًا، وبين (الرمز – symbol) الذي يتأتى معناه مما يشبهه، أي عن طريق ترابط ضروري، وليس عن طريق اتفاق صريح. وإذًا فلهذا السبب لا تثير كلمة "موت" فكرة الموت إلا لأنها تتفق مع الإشارة اللغوية للمفهوم -كما يمكننا أيضا أن نطلق عليه (Death) بالإنجليزية، أو (Tod) بالألمانية-، أما في حالة رمز الموت، وهو الهيكل العظمي الذي يحمل منجلًا وساعة رملية، فإنه يُفهم تلقائيا، دون حاجة إلى اتفاق. يشبه الرمز الفكرة التي يعبر عنها. والشبه، هو محاكاة لنموذج. ولهذا كانت فلسفة الفن، ونظرية المظهر الجميل، في بداياتها لدى الفلاسفة الإغريق، نظرية محاكاة (mimêsis باليونانية.)
ولاحظوا في هذا الشأن، أننا حين نرى عملًا فنيًا يبدو لنا ناجحًا نقول إنه يشبه شيئًا ما، وحين نرى عملا فنيًا مخفقًا نقول إنه "لا يشبه شيئًا". وإذًا، فلو كان الجمال "شكلًا رمزيًا" (إذ أنه لا يقتصر على مادته المجردة، لكنه يحمل إشارة أو معنى، أي يبعث على التفكير، أو على الحلم في أقل الأحوال)، يغدو من الصعب تحديد الفكرة التي يعبر عنها الجمال، أو النموذج الذي يحاكيه. ولهذا بدأنا بالقول سابقًا أن الجمال يقدم نفسه لنا على هيئة لغز، أي مثل رمز ما عدنا نعرف معناه. ورمزية الموت يمكن فهمها دون عناء، بيد أنه لا أحد يستطيع الإتيان بما تعنيه تحديدًا الابتسامة الغامضة للملائكة التي رسمها ليوناردو دافينشي. وفي أحد دروس هيجل حول فلسفة الفن[9] (عنونها أحد طلبته بـ "الجمالية- Esthétique"، وهي الكلمة التي لم تظهر على ساحة الفلسفة إلا في منتصف القرن التاسع عشر)، قسم هيجل فلسفة الفن الغربية إلى ثلاث لحظات هامة، كان أولها الفن "الرمزي". ومن ثمّ يجب أن يبدأ تاريخ الفن من الفن الرمزي، لأن جمال المظهر يتبدى لنا بوصفه رمزًا ضاع معناه، ولغزًا نجهل كنهه. ويرى هيجل أن مصر القديمة التي عرفت كيف تَنفُذ إلى جوهر الفن الرمزي بأمثل طريقة، هي من عرفت كيف تجسّد لغز الجمال بكل عظمته: "مصر بلد الرموز [...] وأعمال المصريين الفنية تظل غامضة وصامتة، دون صدى ودون حراك، فالروح آنذاك لم تجد تجسدها الحقيقي، ولم تعرف لنفسها لغة واضحة وصافية."[10] وتبعًا لهذا التفسير، فإن العمل الفني الذي جسّد روح الفن الرمزي على أكمل وجه هو تمثال أبو الهول (Sphinx)، وهو تمثال متيقظ، ضخم، ملغز، واقف على عتبة الصحراء التي هي مملكة غير الإنسان، يمثل رمزًا للمجهول ويعد مثالًا نموذجيًا على غموض الجمال:"تحتوي أعمال المصريين الفنية على ألغاز ليست عصية على التفسير علينا فحسب، بل لا بد أنها كانت ولو في جزء منها عصية على أولئك الذين صنعوها. وبسبب رمزيتها الغامضة تعد الأعمال المصرية إذًا ألغازًا. وهي فوق ذلك لغزٌ فعلي -غير ذاتي-. ويمكن أن يُرمز لهذه الأعمال بتمثال أبو الهول، فهو الرمز للمذهب الرمزي"[11]. وإذًا فيمكننا القول إن كل جمالية محسوسة هي مثل تمثال أبي الهول، تقدم لكل من أدام النظر فيها لغزًا حول مظهرها.[12]وإذًا فإن فلسفة الفن تبحث عن الأصل والأسس وعن المعنى الخفي من اللغز الظاهر الجمال. والسبب الذي يجعل لغز الجمال هو ما تبحث فيه الفلسفة، هو الشعور بأن الجمال يسمح لنا أن نعرف شيئًا على نحو غامض. ولهذا السبب نفسه لا توجد فلسفة للطبخ، ولا للتذوق، فالمتعة التي نحسّها تظل فردية، وهي بالتالي لا يعتد بها، فهي مذاقات وألوان لا نتناقش حولها. ونحن لا نتذوق طبق البط بصلصة التوت مثلما نتذوق تحفة فنية، فمع الأول يمكننا ببساطة أن نصف مذاقه بـ"الطيّب"، أما الثاني فنقول إنه "جميل". وما نصفه "طيّبا" هو أمر فرديّ وظرفيّ، بينما يعد الجمال عالميًا وضروريًا. أو على الأقل هذا ما يدعيه. وتوجد فلسفة للجمال، لكن لا فلسفة تبحث فيما هو طيّب، فهذا أمر تكشفه علوم وظائف الأعضاء، أو دراسة عن الحواس. وإذا أردنا أن نتحدث عن فلسفة للفن، أو حتى فلسفة للتاريخ أو العلم (نظرية المعرفة)، فذلك لأننا نخمن أن في الفن والتاريخ والعلم، تكمن الحقيقة، أي تكمن معرفة ضرورية وعالمية، في جوهرها. ومن ذاك ينبع مغزى البحث في الأصل والأسس. ولاحظوا هنا أننا لا نملك سوى فرضية، فمن المحتمل أن الجمال ليس تعبيرًا عن الحقيقة، وإنما تعبيرٌ عن كذبة، عن خيال جذاب. ولن يكف هذان النقيضان عن التلاقي في فلسفة الفن.
التفكير المستقل.
في مسألة الفن، هناك قطعيّتان تعيقان ركيزة التفكير المستقل في الفلسفة: أولاهما هي بكل بساطة التجريب، وما التجريب إلا حصيلة التجربة والتعليم، وثانيهما هي المبادئ المتعالية (transcendantal)، وهي التي تأتي من أكثر الأمور جوهرية في الشيء، فمثلا في فلسفة الفن، فإن مظهر الجمال هو المبدأ المتعالي.
وعائق التجريب يكمن في أننا نتوارث الفن توارث أحد التقاليد القائمة أصلا. فمجال الفن معرّف تجريبيا بمجموعة اللوحات التي تكوّن الإرث الفني. ومسألة الجوهر لم تعد تطرح تاليًا، فيكفي أن نتناقل الكنوز الفنية من الماضي ونحافظ عليها دون التساؤل عن لغز الجمال. وهذا في الغالب ما يفعله المؤرخون الفنيون، فالأعمال الفنية موجودة منذ وقت يسبق تفكيرهم بها، وبذلك فهم لا يعملون على الاعتراف بأنها أعمال فنية، وإنما يعملون فقط على نسبتها لأصحابها، وعلى تصنيفها (تبعًا للنوع والمدرسة الفنية والبلد والخصائص الشكلية... وما إلى ذلك) وعلى توثيق مسيرتها. وبالتالي، فإن تاريخ الفن يفترض وجود العمل الفني مسبقًا. ويدخل في الأعمال الفنية كل عمل يشكل جزءًا من الكنز المتوارث، ويتنامى هذا الإرث من خلال اقتناء الأعمال الفنية. وهذه الحلقة تتسبب بإفراغ الفن من محتواه ولا تقرّ له بجوهره الخاص.
وعلى سبيل المثال، فمن المتفق عليه أن تاريخ الرسم يبدأ مع جيوتو دي بوندوني (Giotto) وأنه منذ عهد بول سيزان (Cézanne) دخل في أزمة لا يبدو أنه استطاع الخروج منها، لكن لمعرفة ما الذي بدأ مع جيوتو تحديدًا، وما الذي اختتم مع سيزان، لن نجد إجابة. ولو أننا تساءلنا أكثر من ذلك عما يعنيه الرسم، وعما تطلق عليه الثقافة الغربية اسم اللوحة (وهو لا يشبه إطلاقًا الرسم بغسيل الحبر لدى الصينيين)، لظلت أسئلتنا دون إجابة. وفي المقابل، تضطلع فلسفة الفن برفض سلطة التقاليد (وهنا تساؤل، هل ذلك ممكن حقًا؟)، ففلسفة الفن تسعى إلى النظر في جوهر الفن نفسه، لا أن يُملى عليها المحتوى. وهي لا تتلقى الدروس التي كتبها من أجلها الآخرون، بل تمعن النظر بنفسها في لغز الجمال ومعنى العمل الفني.
أما عائق مبدأ التعالي (transcendantal) فهو الأكثر أهمية، إذ لا شك أنه من العسير دراسة الجمال، فالجمال يسحر ويغوي دارسيه فقط ببريق مظهره. ولعل هنالك تناقضًا أساسيا بين الجمال الذي يجذب ويستحث الرغبة، وبين التأمل، الذي يتطلب التراجع والتركيز على الداخل. والجمال يستلب المرء من نفسه، فهو يسحبني إلى خارج نفسي (يفتنني)، وهو معبود يستلزم الإذعان (من خلال سحره)، وهو أخاذ إلى درجة الاستعباد (الهوى). وعلى خلافه، فالتفكير المستقل في الفلسفة هو ركيزةٌ تتعلق بالذاتية لا بكون المرء مستلبًا، والعقل – وهو الفكر الذي لا يخضع إلا لضروراته الخاصة، أي الفكر المتحرر في نفسه- لا يعترف إلا بسلطة البرهان، لا بسلطة العشق أو الهوى. وهنا تضارب يسري في كل فلسفة الفن، فإما الاستسلام لسحر الجمال وبالتالي النأي عن منهجية العقل، أي حرية التفكير الذاتي، وإما رفض الانصياع لجاذبية (روعة) الجمال، واتباع العقل وحده، ومن ثم البقاء مثل الأجنبي في مملكة الفن. وهذا ما ورد في كتاب أفلاطون: الجمهورية في فصله العاشر (مقطع 607ب) حين كتب عن الخلاف القائم بين الفلسفة والشعر (وهو خلاف بالغ القدم، يسمى باليونانية palaia diaphora). ولنلاحظ مع ذلك أن هذا التضارب هو تضارب سقيم وسطحي، لأنه غير واضح بأي حال من الأحوال. وعلى خلاف الانطباع القائل بأن الشرح المفصّل لأي قصيدة (لو كان ممكنًا على الأقل) يفقد الشعر "سحره". فإن فلسفة الفن تطرح من حيث المبدأ أن التحليل العقلانيّ للجمال لا يفسد موضوعه وإنما يعمّقه. واكتشاف الجمال لا يعني الوقوع في حبه حبًا صامتًا، (مثلما يلجأ بعض متصوفي الجمال إلى الاعتقاد بأن الجمال لا يحتمل الوصف)، بل يعني على العكس من ذلك أن نسعى إلى الإجابة على اللغز الذي يطرحه علينا، وعند الفيلسوف، فالجمال لا يعيق الروح، بل هو يستجوبها، ويدعوها إلى التفكير.
كان الإغريقيون القدماء من جاؤوا بفكرة الفلسفة، وليس هذا وحسب، بل تمكنوا من أن يعلوا من شأن بريق الجمال وأن يمنحوه شرف السؤال الفلسفي. ولا غرابة أن يكون هؤلاء الإغريق هم نفسهم من ابتكروا الأبطال الذين نافسوا لغز أبي الهول، وهو (رمز المذهب الرمزي) الذي جسّد منذ بداية التاريخ الغربي غموض الجمال: فلما كان أوديب على بوابات طيبة التقى الطائر الأسطوري أبا الهول، وحلّ اللغز، وكما تقول الأسطورة، دفع بأبي الهول إلى الهاوية. إلا أنه لم يقتله، وهو لم يقتله مثلما أن التحليل الفلسفي للجمال لا يطفئ بريق الجمال، ولم يتجنب الإغريقيون استعمال رمز أبي الهول بنفسهم، بل هم في الحقيقة استعملوه استعمالًا مفسّرًا على طريقتهم. وعلى خلاف أبي الهول المصري، ليس أبو الهول الإغريقي رمزًا مقدسا صامتًا غامضًا يقف أبدًا على أعتاب الصحراء. ففي دلفي-اليونان، يُرى أبو الهول المسمى " Sphinx of the Naxians" (ظهر قرابة عام 560 قبل الميلاد)، ويبدو بمظهر المستعد للتحليق، ناشرًا جناحيه، واقفًا على قائمتيه الأماميتين، عيناه مفتوحتان وواسعتان، وعلى وجهه ابتسامة تضيئه، وهو في ذلك رمز للغز الديناميكي الذي يسائل العقل، وليس باللغز الساكن الذي يسحق العقل من وطأة غموضه. إن أبا الهول المصري، رمزٌ مقدس، صموت، بينما اليوناني هو لغزٌ حيّ، يحث على الكلام والتفكير. وأبو الهول المصري يرى دون أن ينظر، أما اليوناني فهو ينظر في عيني المتحدث معه مباشرة. والمصري ساكن ومستلقٍ، غير أن اليوناني ينهض ويشرع في حوار. وعند الإغريقيين، لا يصح أن يظل المرء عابدًا للجمال مولعًا به، بل عليه أن يصبح فيلسوفا في الجمال، وأن يجِدّ في طلب معناه. ومن هذا الحوار بين حكمة العقل ولغز الجمال، ولدت فلسفة الفن.
وختامًا، فلنلاحظ حدود هذه المقدمة. لقد جعلتُ استفهام فلسفة الفن يدور حول لغز الجمال، هذا الرمز الذي ربما يتعذر تفسيره. وبهذا فقد استُبعدت مسألة أن الفن والجمال ليسا بالضرورة مرتبطين، وأنه في مرحلة امتدت إلى قرنين من الزمن -منذ نهاية القرن السابع عشر حين اتُفق على الجماليّة التي يتضمنها ماهو جليل Sublime - كان القبح، وما يُستلهم منه الرعب، موادّ من مواد الفن. وفي مقالة تأسيسية نشرت عام 1757 (بحث فلسفي في أصل أفكارنا عن الجليل والجميل)[13] كتب الفيلسوف الإنجليزي إدموند بورك (Edmund Burke) ملاحظة حول شيوع جمالية القبح التي لا يمكن فصلها عن تذوق الجمال "وأظن أن القبح يتوافق مع فكرة الجليل"[14]. وبعد مضيّ قرن، بحلول العام 1857، نشر كارل روزينكرانتس Rosenkrantz كتابه (Aesthetik des Hässlichen) (جمالية القبح) الذي يطرح فيه على نحو أكثر تطرفًا، القيمة الحسنة حول القبح. وفي بداية القرن العشرين، عمدت المدرسة التعبيرية في بلدان الشمال إلى الاستعانة بالقبح بوصفه عنيفًا، بالتنافر الذي يوحي به، وبالشعور القويّ الذي يتولد عنه. وفي الحقيقة، يبدو أن القبح استرعى انتباه الفنانين منذ مدة طويلة، فهناك أقنعة المهرجين في الكوميديا القديمة والأشخاص المشوهون الذين ارتدوها (ووصلت إلينا اليوم في مجسمات صغيرة من الصلصال أو البرونز)، أو تماثيل الغرغول[15] التي نعثر عليها في الكاتدرائيات القوطية (يلاحظ أن هذه التماثيل المتجهمة توضع دائمًا خارج الكاتدرائيات، ولم توجد قط داخلها)، ووحوش الرسام الهولندي هيرونيموس بوس (Hieronymus Bosch - نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر). وهناك رأس ميدوسا - Medusa (وهي تتكرر في الفن الإغريقي القديم، لكننا نجدها في الرسم الكلاسيكي، في لوحة نُسبت مرةً إلى ليوناردو دافينشي، في معرض يوفيزي-فلورنسا، وفي لوحة لـلرسام الإيطالي كارافاجيو توجد أيضا في المعرض نفسه، أو في لوحة قماشية للرسام الفلامنكي بيتر بول روبنس توجد في متحف Kunsthistorische في فيينا)، ولدينا أيضا المعاقون في لوحات الرسام الإسباني خوسيه دي ريبيرا (لوحة الولد الأحنف Clubfooted Boy في متحف اللوفر ولوحة السيدة الملتحية Bearded Lady في متحف في طليطلة)، أو الأقزام في لوحات الإسباني دييغو فيلاسكيز (في متحف برادو-مدريد). بيد أنه في كل هذه الأعمال، لا يقف القبح مقابلاً للجمال مثلما نقابل بين الأسلوب المتنافر (grotesque) والأسلوب النبيل والجليل، أو مثلما نقابل بين تجهم المعذبين وسكينة الملائكة. وقبل القرن الثامن عشر لم يكن القبح، وما يستلهم منه الرعب، إن لم يكن الفزع، ليملك قيمته في نفسه، دون الرجوع إلى نموذج ضمنيّ للجمال. ومن ثم نشأت جمالية لا تتعلق بالجمال وحده، وإنما بما هو جليل (sublime).
والقبح الباهر يصبو لأن يكون جليلًا بمثل ما يصبو الجمال الساحر إلى الجليل، إن لم يكن أكثر. ولهذا السبب فإن شخصية كوازيمودو (Quasimodo) التي وضعها فيكتور هوجو تعتبر مما هو جليل، رغم تشوهها، وقبحها يملك قيمته في نفسه، ولا تكمن قيمته في إبراز جمال إزميرالدا (Esmeralda). وليس ثمة نصّ في هذا الشأن أفضل مما كتبه فيكتور هوجو عام 1827 في كتابه التراجيدي مقدمة كرومويل. ففي هذا النص، يوضح هوجو ما هو مصطنع في الأسلوب الجمالي للقرن السابع عشر، وما هو زائف وغير أصيل في الذوق الرفيع للقرن الثامن عشر. ويضيف بأن السمة المميزة للعقل الحديث هو قلب هذه المعايير المفرطة في التقييد، والارتقاء بالقبح والفظاعة إلى مرتبة الفن، إذ يقول: "العبقرية المعاصرة [...] وُلدت من الاتحاد الخصب بين نموذج المتنافر-المضحك ونموذج الجليل"، "وقد يصح القول أيضًا أن ملامسة المشوّه منحت (الجليل) المعاصر شيئًا ما أكثر نقاوة وعظمة وأكثر جلالًا من الجميل القديم"، "لأن الخيال المعاصر يعرف كيف يجعل مصاصي الدماء، وأكلة لحوم البشر، والمشعوذين، والسعالى، والغيلان، يطوفون ببشاعة في مقابرنا"، "والشيء المشوّه والشنيع والبشع، يغدو، في حضرة الشعر وداخل ميدان الفن، جميلًا وبديعًا وجليلًا، دون أن يفقد شيئًا من فظاعته"[16]. وبالتالي فإن الفن لا يقتصر على الجمال وحده، فثمة جمال متناقض داخل القبح، وانجذاب نحو الرعب، وقد أولته الحركة الرومانسية تركيزًا كاملا. ولا يصبو الفن إلى أن يكون جميلًا وحسب، بل هو قدرة أكثر إبداعًا وأبلغ صُنعًا، وفي مقدورها خلق الوحوش أيضًا.
وسواء كان جميلاً، أو قبيحًا، فاللغز يظل لغز الظاهرة الجماليّة esthétique، وظهورها المتألق، وهو ما تتساءل عنه فلسفة الفن. ونحن نعرف عن الجمال على الأقل ما يلي: أنه موضوع فعل "يظهر" (apparaître). فأناقة الجميل، مثلها مثل جلالة القبيح، كلاهما معًا، بمنزلة أبوي الهول اللذين يكمن في ظهورهما وتجسّدهما كل روعتهما، وهو ظهور محسوس ذو معنى ملغز، ورمز لعلنا أضعنا مفتاح معناه. وهذا ما تنطوي عليه فلسفة الفن كلها: مساءلة المظهر المحسوس، والظاهرة، حين تكون الظاهرة بمجرد حدوثها، تجعلنا في تحدّ لسبر المعاني التي تثيرها داخلنا. والجمال كله، والقبح كله، ليسا محط اهتمام الفن، ما لم يحملا دلالات، وما لم يعلّمانا شيئًا.
[1] فيلسوف ومفكر فرنسي وأستاذ سابق للفلسفة في جامعة السوربون بباريس، ينشر مقالاته في الفلسفة على موقعه https://jdarriulat.net/index.html ومعظم مافي موقعه هي مواد للدروس التي كان يلقيها في الجامعة لطلبة الدراسات العليا، ولهذا يغلب عليها أحيانًا الطابع الإلقائي. - المترجم.
[2] (منشورات Robert Laffont، 1964، وأعادت دار Denoël/Gonthier, « Médiations » طباعته بحجم كتب الجيب) - المؤلف.
[3] يقصد بهاتين اللوحتين على الأغلب المشهدان المذكوران في الكتاب المقدس، واللذان صوّرهما عدد من الرسامين، وللاستزادة ابحث بالأسماء: Judith Beheading Holofernes _ Salome with the Head of John the Baptist - المترجم.
[4] صدر عام 1939، ونشرت دار غاليمار الترجمة الفرنسية عام 1967. - المؤلف.
[5] لتعريف عام وسريع، انظر Nathalie Heinich, La Sociologie de l’art ، دار La Découverte عام 2001. - المؤلف.
[6] (De Oratore, II, 7) مرجع المؤلف
[7] (V, 8, 1) من المؤلف السابق.
[8] ظهرت هذه الجملة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، واستعملها مفكرون مثل ديكارت وباسكال في سياقات الفن والأدب لوصف الجمال الذي يتعذر شرحه وتحليل مصدره، رامين بذلك إلى أن هناك جوانب من الجمال تسمو على القدرة على التعبير عنها. - المترجم.
[9] يقصد بها كتاب هيجل Aesthetics: Lectures on Fine Art - المترجم.
[10] المجلد الثاني من الكتاب السابق، ص 68 - المؤلف.
[11] المجلد الثاني من الكتاب السابق، ص 75. - المؤلف.
[12] حين توصل تيوفيل توري برغر، والمعروف باسم "توري-برغر" Thoré-Bürger إلى اكتشاف يوهانس فيرميير رسام لوحة View of Delft في القرن التاسع عشر، أطلق على اللوحة اسم (the Sphinx) - أبو الهول. المرجع: (Germain Bazin, Histoire de l’histoire de l’art, Albin Michel, 1986, p. 237).
وفي المقالات الثلاثة الأولى التي نشرها توري برغر في المجلة الفنية La Gazette des Beaux-Arts، قال فيها: "وهكذا، فإنني أغامر أمام [أبو الهول] ولعلني على الأقل أبدد جزءًا من الظل الذي يلقي به لغزه على القلة المنشغلين به". المرجع (André Blum, Vermeer et Thoré-Bürger, Editions du Mont-Blanc, Genève, 1946, p. 86). - المؤلف.
[13] A Philosophical Enquiry into the Origin of Our Ideas of the Sublime and Beautiful; Burke, Edmund, 1729-1797 - المترجم.
[14] (« La laideur », partie III, section 21, p. 214) مصدر المؤلف
[15] تماثيل الغرغول gargoyle هي تماثيل تُرى على جدران الكاتدرائيات وتعمل عمل المزاريب في تصريف المياه من السطح، وإيرادها مثالًا هنا لأنها تشتهر بأشكالها الغريبة. - المترجم.
[16] ترد الاقتباسات الثلاثة الأولى مترجمة في كتاب: مقدمة كرومويل لفيكتور هوجو، ترجمها الدكتور علي نجيب إبراهيم، وقد استعنت بها كما وردت في الكتاب بعدما قابلتها مع نظيراتها في الفرنسية، أما الاقتباس الأخير فهو من ترجمتي إذ لم أجده في متن الكتاب المذكور. وأشير هنا أيضًا إلى استعمال مترجم الكتاب لمصطلح (المتنافر-المضحك) مقابلًا للمفردة الفرنسية (grotesque) بينما استعملتُها في النص بكلمة (المتنافر) فقط. - المترجم.