ألبيرتو جياكوميتي - الفن سبيلًا للرؤية

single

 

شيرا وولف

ترجمة محمد السعيد

 

«لا أعمل بغيةَ ابتداعِ لوحات جميلة أو منحوتات. الفنُّ وحده سبيلٌ للرؤية. لا يهمُّ ما أنظر إليه، كلُّه يفاجئني ويراوغني، ولستُ متأكدًا تمامًا مما أراه.»

ألبيرتو جياكوميتي

 

من كان ألبيرتو جياكوميتي؟

النحَّاتون متجاوزي الحدود هم أولئك الذين أوسعوا بنهجهم وَسَطَ النحت، مدركينَ أراضٍ جديدة ومتفرِّدة. هذا الإصدار إهداءٌ إلى ألبيرتو جياكوميتي، أحدُ النحاتين الأشدّ تأثيرًا في الفن المعاصر. على أنَّه ارتبطَ بطليعة أوائل القرن العشرين من الفنانين، إلا أنه نمَّى، لا شكَّ، أسلوبًا غرائبيًّا فريدًا في ذاته. كان صديقًا لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وصمويل بيكيت وبيكاسو، وعبقريًّا مُضنًى إذ استجلى الحالةَ الإنسانية وأهوالَ زمانه في مجسَّمات ممدودة فردية، كرموزٍ تتسم بالقلق والمرونة.

وُلدَ ألبيرتو جياكوميتي في وادٍ سويسريٍّ ناءٍ عام 1901، ونشأ في الفن. والده رسَّام ناجح على مذهب الواقعية، ونحتَ جياكوميتي منحوتته الأولى في شكلِ أخيه دييغو في سنِّ الرابعة عشر. انتقلَ إلى باريس عام 1922 مع أخيه الذي استمرَّ في اتِّخاذه عارضًا. درسَ في أكاديمية دي لا غراند-شوميه على يدِ النحات أنطوان بورديل. في عام 1926، بدأ يهتمُّ في الفن الأفريقي وابتعد شيئًا فشيئًا عن التمثيل الطبيعاني والأكاديمي نحوَ رؤىً طوطمية وجامحة متمثِّلة في سوادِ المجسم. العملان اللذان لفتا أنظار الناس صوب جياكوميتي هما المرأة المِلعقة (1927) والزوجان (1926)، حيث عرضهما عام 1927 في صالون التويلري.

 

Giacometti's Three Men Walking II

ألبيرتو جياكوميتي، ثلاثة رجال يمشون

 

 

اكتشافُ السرياليَّة

في باريس، اكتشفَ جياكوميتي السريالية أيضًا. صاحَبَ أندريه بريتون وانضمَّ إلى الحركة السريالية في 1931. مستوحيًا من السريالية، توقف جياكوميتي عن الاستمدادِ من الحياة وركَّزَ على الرؤى الحالمة. ادعى أنه لم يشكِّل سوى المنحوتات التي أظهرت نفسها له في حالة مُنجَزَة، مما يناسب تمامًا تعاليم السريالية. لكنه في 1934، ظلَّ يشتغل على قطعة مُحكَمَة يدان تمسكان العدم (شيء لا مرئي) – محاولته في تصوير إنسانٍ تام بطول متر ونصف – ووجد نفسه في حَبْسَة فنيّة. كانت القطعة بمثابة نقطة تحول لجياكوميتي، إذ لم يكن قانعًا بالساقَين والجذع والنهدين فقرر الفنان بحاجته إلى أن يستمد من الطبيعة، فاستأجر عارضة – وبفعله هذا أحبطَ بريتون الذي عارضَ هذا الأسلوب الفني معارضةَ شديدة.

باتَ جياكوميتي رهينَ المحاولة في معالجة الرأس الذي عدَّه شيئًا مجهولًا وبلا أبعاد، لكن لاقى هذا الهوس مقتًا من بريتون الذي قال: «يعرف الجميع ما شكل الرأس!». حينما قبل تكليفًا في 1934، كانت هذه هي القشَّة الأخيرة للسرياليين الذين شعروا بأنه يربط نفسه بالبرجوازيين، وطردوه من المجموعة.

مع طرده من الحركة السريالية في 1935، استمرتْ الحركة في تشكيل عمله الإبداعي في أشكالِ رؤىً حالمة، توليفًا وتجميعًا، معالجةٌ سحرية للمجسم، وللأشياء التي تحمل تعبيرات مجازية.

 

Fondation Giacometti - 5. What is a head ?

ألبيرتو جياكوميتي، رأس-جمجمة، 1934

 

الرأس

ظلَّت إشكالية الرأس البشرية مبحثًا مركزيًّا طيلةَ حياة جياكوميتي. وفوقَ كلِّ هذا، أَسَرتهُ كلَّ الأسر العينَين بوصفهما ركيزتَي الحياة البشرية. بعد منية والده في 1933، نحت جياكوميتي رأس-جمجمة في 1934 وما انفك يعمل على تباينات مختلفة على الرؤوس بعد هذا. في هذه المدة، بدأ جياكوميتي يشتغل مزيدًا ومزيدًا في مفهوم الأحجام أيضًا. أراد أن يبتدع أنموذجًا يمثل تصوَّر رؤيته، وهذا يشتمل على إظهار الشيء من مسافة كان ينظر منها إلى هذا الشيء. أولى عارضاته اللائي جرَّب معهن هذه المسافة الذاتية الواقعية كانت إيزابل ديلمر، وكانت عارضة لإحدى مُصغَّراته، وأظهرها كما رآها من بعيد في الحي اللاتيني في باريس.

 

الحرب العالمية الثانية - مجسمات صغيرة

إبان الحرب العالمية الثانية، عاد جياكوميتي إلى سويسرا وعاش في جنيف حيث التقى بزوجته آنيت آرم. في هذه المدة، تقلصت منحوتاته حجمًا وهو شارعٌ في تصوير المسافة الحقيقية بين شخصه وعارضته: بين عامي 1938 و1944، لم تتجاوز منحوتاته ارتفاع سبعة سنتيمترات. متأمِّلًا في هذا التطور الفني، قال جياكوميتي: «وما أردتُ سوى أن أبتدع من الذاكرة ما رأيتهُ، ولِهَولِي أمست المنحوتات أصغر وأصغر.» في 1944-1945، نحتَ جياكوميتي امرأة بعربة، منحوتةً من ذكرى صديقته وعارضته إيزابل، والتي صارت أنموذجَ مجسماته المثالي لفترة ما بعد الحرب.

 

«لا شيءَ يشابه ما تخيّلتُه. مجرَّدُ رأسٍ صارَ شيئًا مجهولًا تمامًا وبلا أبعاد.»

ألبيرتو جياكوميتي

 

Alberto Giacometti (Swiss, 1901-1966) 'Walking Man I' 1960 (installation view)

ألبيرتو جياكوميتي، رجلٌ ماشٍ، 1960

 

التحرُّر من المُصَغَّرات

بعد عودته إلى باريس في 1945، كانت لجياكوميتي رؤية مكَّنته من التحرر من فنِّ المُصَغَّرات. يومًا، كان خارجًا من دار السينما في جادة مونبارناس حيث جرَّبَ فُجأةً تحولًا كاملًا في تلقّيه الواقعَ. أدركَ أن رؤيته للعالم كانت صُوريَّة حتى تلك اللحظة، وما الواقعُ سوى «قطبان متنافران من موضوعية مُفترَضَة من فيلم.».

وهنا، شَعَرَ جياكوميتي أنه ولجَ العالم أول مرة، ملاحظًا الرؤوس العديدة حوله كما لو أنها معزولة عن المكان. منحوتاته الأشهر وليدةُ هذه الحقبة. غدا الآن يعمل بأحجامٍ أكبر، مبتدعًا منحوتات مطوَّلة وهزيلة، مستمدًّا من تجربته البصرية الفردية. من بعضِ أعماله الكبرى منحوتتي امرأة واقفة ورجل ماشٍ. عاد مرارًا وتكرارًا إلى هذه المجسمات، واشتغل بلا كلل في إعادة إنتاجها وتكرارها نفسها حيث أراد أن يُحسِنَ من فهمِ رؤيته الذاتية.

 

 

Fondation Giacometti - Caroline in Tears

ألبيرتو جياكوميتي، كارولاين الدامعة، 1965 

 

بورتريهات ولوحات

مع أنه استند دائمًا إلى رسومات صاحبتْ نمو نظرته، ركزت سنيُّ جياكوميتي الأخيرة أكثر على الرسم، منتجًا الكثير من الرسومات الرمزية المصاحبة لمنحوتاته. حاولَ أن يلتقط ويصوِّر ذبذبة حياة عارضيه. تطورت لوحاته الشخصية تطورًا مطِّردًا نتيجةَ حوارٍ مستمر بين الرسم والنحت. العارضون الأحب لجياكوميتي كانوا الأقرب له، مثل أخيه ومساعده دييغو، وزوجته آنيت، وصديقته إيزابل. بالطبع رسم من لا يعرفهم من العارضين بشرط موافقتهم على الاستعراض له لساعات بلا انقطاع في ظروفٍ مستحيلة. في نهايات حياته، لم يكل جياكوميتي من العمل على اللوحات والمنحوتات التي صورت زوجته آنيت وعارضته ومُلهمته كارولاين، مشتغلًا في تصوير آنيت طوال النهار، وكارولاين طوال الليل. أسفرتْ هذه اللوحات الشخصية بدارميّتها واضطرابها وحيويّتها بنسوةِ حياته عن بحثِ جياكوميتي الدؤوب لفهم الحالة الإنسانية، وأبانتْ سبيلًا لرؤية العالم الذي اكتشفه. وافته المنية في 1966 من المرض بسبب سنوات من الإجهاد، وتَرِكتُه أعمالٌ مذهلة خلَّدتْ بحثَه في الحالة الإنسانية، مكابدةً ومرونةً. وصف سارتر مجسماته الماشية أنها «في صيرورة بين الوجود والعدم.». في صيرورةٍ بين الوجود والعدم، مبحرةً عبر حالةٍ كثيفةٍ من البرزخ حيث تنتظر التجربةُ الحقيقية.

 

 

أين نجد أعمال ألبيرتو جياكوميتي؟

أُسست مؤسسة جياكوميتي في 2003 بهدف ترويج ونشر وحفظ وتأمين موروثِ الفنان، حيث تمتلك ما يقارب 5000 عملًا لجياكوميتي، وتعرضها باستمرار حول العالم في معارض فنية وقروض طويلة الأجل. الأعمال الأخرى جزء من تجميعات مرموقة حول العالم، في معهد الفن شيكاغو ومؤسسة بايلر في بازل، ومتحف سولومون غاغينهايم ومتحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك ومتحف تيت مودرن في لندن ومتحف لويزيانا للفن الحديث في الدينمارك، ومؤسسات أخرى.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي