سارة الراجحي
طالما كان الفنُّ ظاهرة بشرية ممتدة، وفريدة، ومدهشة، ومتجددة. ويوشك أن يكون عمر الفنِّ هو عمر الإنسان الذي افتُتن بالجمال، سواء أكان جمالًا طبيعيًا أم من صنع يديه. ولقد شكَّلت الفنون جانبًا مهمًا من حياة البشرية على مر عصورها المرصودة، وحازت قدرًا كبيرًا من الالتفات والعناية، ولم تكن مقتصرة على التأمل والاستمتاع الخالص فقط؛ بل بذل الإنسان، في خدمتها وتكريمها، جهودًا لا تقلُّ عن الجهود التي بذلها في مجالات أخرى ذات علاقة مباشرة ببقائه وجودة حياته.
يبعث الفنّ على الدهشة والاستجابة الغضة إزاء مشاهد باتت شاحبة بسبب الألفة والاعتياد، فيجعلنا أمام مشاهد جديدة. وإن لم تكن بديلة بالطبع للواقع المُعاين. إنه يُعيد تشكيل العالم فيها ويغيّر هيكلته، ويخلق لنا عناصر وعوالم جديدة، عبر إبداع الفنانين اللامتناهي؛ لهذا يرى بروست، في «البحث عن الزمن المفقود»، أن العالم لم يُخلق مرة واحدة وإنما يُخلق في كل مرة يأتي فيها فنَّان أصيل، وأن الزهور عندما تُرسَم تُصبح فصيلة جديدة يُغنِي بها الفنَّان مملكة الزهور.
إن الفن أداة تعين الإنسان في فهم نفسه والآخرين والعالم من حوله؛ بما يصنعه من تجارب عابرة للثقافات، يتشارك فيها البشر وتستدعي عالميتهم. إنه يمكّننا من الولوج إلى تجارب الآخرين، ومن ثم الانتقال إلى من ضيق الفردية إلى رحابة الكلية؛ كما لو أننا لسنا مضطرين إلى إمضاء العمر في حياة واحدة، والرُّزوح تحت وطأة محدوديتها.
والفنون وهي تبتدع وتحاكي مختلف الحكايا والتجارب والمشاهد نجد أنها تحول بيننا وبين أن تستبدَّ بنا المآسي والأحزان - حتى في أشد الحالات والأحداث - ليس هذا فحسب، بل هي تمنحنا اللذة والغبطة، وتزيح عن كواهلنا - ولو مؤقتًا - أعباء الحياة وصروفها. ولعل «مفارقة التراجيديا» هذه من أهم الشواهد على القوة الكامنة في الفن، وحيويته واتصاله المباشر بالإنسان وشواغله، وكيف يحرّك التعاطف، والاستجابات المختلفة عن حدّة استجابات الحياة الواقعية، فأسْره مختلف عن أسْر الواقع.
إن ما يمكن توكيده هو أن الفنون وإن تغيرت وتطورت أشكالها وأسبابها وتغيَّر فهم الإنسان لها، إلا أن الاستجابة للفن والحساسية تجاه الجمال ثابتة، وستظل الأعمال العظيمة حية، ومؤثرة، وملهمة، ومُظهِرة لتلك القسمات والعناصر الإنسانية المشتركة، رغم الاختلاف والتنوُّع، ومرور الزمن على تلك الأعمال. فمن منَّا لا يستجيب للرسوم والنقوش على جدران كهوف ما قبل التاريخ، ويغتبط للوحات والمنحوتات والبنايات التي تقادمت عليها الأزمنة.
الفن -كما عبَّر مارك جيمينيز- وسيلة تعليمية، وحجة لاهوتية، وأداة ترويجية، ونسخة عن الطبيعة، وانعكاس للواقع، وإسقاط للاستيهامات، وغرض من أغراض المتعة، ووسيلة للمعرفة. ومن شواهد ذلك أنه لما طُرحت مسألة الفن وحُكم الذوق في القرن الثامن عشر؛ فُتح الفضاء الكبير لحرية الحكم، والاتصال والتبادل، واكتُشف ميدان المخيلة والانفعالات، والتمرن على ممارسة الفرد الحرية، وأن يحكم بنفسه. ومع استعار الرومانسية وميلاد الجمالية ضعف وميض «عصر الأنوار»، ناسب هذا الفضاء العمومي، وانبناء الفكر النقدي؛ مما أصاب تدريجيًّا مبادئ السلطات بأنواعها، وهكذا انتصب عالم من الأقوال والأفكار والأذواق.
منصة سارت
من القيمة الكامنة في الفنون، والثراء المعرفي المتدفق عنها؛ جاءت منصة سارت، كأحد مشاريع شركة «سارت للفنون» ذات الأبعاد المعرفية والثقافية والجمالية والاجتماعية، التي تبث الفنون والمعارف ذات الصلة، والخدمات والفعاليات المتعلقة بها.
تستهدف هذه المنصة المقالات والنصوص والمحتوى المتعلق بالفن، خاصة الفنون البصرية، والمعارف المتصلة بها كفلسفة الفن، وتاريخ الفن، والنقد الفني، وكذلك تقاطع الفن مع المجالات الأخرى كالأدب والسينما. فما زال الجانب المعرفي للفن خصبًا وغنيًّا بالمباحث والمسائل التي تستحق الالتفات والعناية، عبر تقديم المقالات والنصوص السابرة لها، وكذلك الأبحاث والدراسات.
نلحظ على سبيل المثال كيف حضرت تساؤلات الفن والجمال عند المفكرين وعلماء الاجتماع والنقاد، سعيًا إلى فهم الانسان ذاته وعلاقاته، ولعل أكثر من شغلتهم التساؤلات حول الفن وأولوها اهتمامًا كبيرًا هم الفلاسفة، سعيًا للإجابة على نحو متماسك ومتسق، وهم في ذلك ما بين قابض وباسط، لكن كان الفنّ موجودًا وما زال، حتى في خضم الدعوى التأبينيَّة التي أعلنت موت الفن، فلا يكاد يخلو مذهب أو اتجاه فلسفي إلا وله مباحث في الفن والجمال؛ فظهرت أسئلة وقضايا من قبيل تعريف الفن، وتفسير ماهيته، والفرق بين الفن والجمال، والحكم الجمالي، والجميل والجليل، والتجربة الجمالية، والإدراك الفني، وحتى القبح والقبيح... وتوالدت الكثير من المباحث والنظريات والمواقف.
هذا القسم النبيل من الفلسفة -كما سماه مؤرخ الفلسفة فيكتور كوزان- وإن لم يقدم مجموعة إجابات نهائية وحاسمة لمجموعة أسئلة وقضايا مستهدفة إلا أنه يستثير ذهن القارئ، ويقوده في رحلة استكشافية، نسعى في سارت أن نأخذ القارئ فيها، لا سيَّما مع عودة الاهتمام بالتفكير النظري في الفن، والذي تبلور في ستينيات القرن الماضي، بسبب دينامية الفن الحديث ومحاولاته الحثيثة لتقويض القواعد والمعايير القديمة، وقطيعته مع القيم المتصلة بالتناغم والتوازن بل وحتى بالجمال.
كذلك ظهور الفن الجاهز والأعمال الصادمة (كأن تُجمع أغراض متوفرة وجاهزة وتُعرض كفن، كـ «النافورة» لمارسيل دوشانب، و«الموزة المعلقة» لماوريتسيو كاتيلان) وحاجتها لتفسير نظري وفلسفي، وفهم دور المؤسسات في الاعتراف بها وتصديرها، وتلك العلاقة الجدلية التي نقلتها من تجارب معزولة إلى مواصفات مقبولة ومألوفة، حتى مع استغراب قسم لا يُستهان به من الجمهور، وحيرتهم الممزوجة بالسخرية حيال بعض الأعمال، وعدم فهمها وفهم سبب تصنيفها كفن، وكأنهم في لعبة لها قواعد ومعايير غير مفهومة سمحت باعتلاء هذه الأعمال جدران المتاحف والمعارض الفنية. كل هذا أبقى مسألة «ما الفن؟» في الصدارة.
إن ما سبق يحض الكتّاب والباحثين على التفكير في الفنّ وفحص منطق السوق والمنطق الثقافي إزاء المنطق الجمالي، كذلك العديد من القضايا الجدِّية الأخرى التي تستحث التفكير والبحث، كثورة الفنون الرقمية والمتاحف الافتراضية، والدور المتعاظم للذكاء الاصطناعي، وما يصاحبها من تساؤلات وجدل حول معالم التجربة الفنية، والجمالية التقليدية، والأصالة والقصدية، وربط المتاحف والأعمال الفنية بالاحتجاجات البيئية... وغيرها من القضايا التي تستهدفها المنصة كتابةً، وترجمةً، ونقاشًا.
وفي غمرة حضور الفن والجمال، وفي خضم الحراك الفني والثقافي؛ لا تنسى المنصة النقد والفحص، فرغم أن دائرة الفنّ شديدة العمومية إلا أن هذا لا يعني غياب النقد بذريعة أن كل شيء في الفن مُباح، وألا يتعطل النقد بفعل الفخاخ التي تنصبها بعض المؤسسات عبر تثبيت ما يفتقر للجمالية وإلصاقه بالفن؛ فنحن نؤمن أن المعايير التي أفرزتها أزمة الحداثة في الغرب ليست معاييرَ كونية وثابتة ينبغي أن نستجلبها إلى مشهدنا الفني ونمتثل لها.
أول دار نشر متخصصة في الفنون
ارتأت شركة «سارت للفنون» إطلاق دار نشر متخصصة في كتب الفنون والجماليات، لتكون أول دار عربية تتخصص في هذا المجال. وترُوم الدار نشر الكتب التمهيدية، والتأصيلية، والدراسات البينية؛ من أجل إبقاء القارئ العربي على اطلاع على آخر ما توصلت إليه الأبحاث، فما زالت الكتب المنشورة في الفن قليلة لا تشفي غليل الهائمين بعوالمه الساحرة، وما زالت هناك نصوص مهمة لم تترجم بعدُ، ومفكرون لم يتعرف عليهم القارئ العربي، كهنري هوم، وألكسندر جيرارد، وأرشيبالد أليسون، وكروساز، وجورج ماير، وغالفانو ديلا فولبي، ومارغريت ماكدونالد.. والعشرات غيرهم.
فضلًا عن الباحثين المعاصرين، وما تشهده الساحة الأنجلو - ساكسونية من مساهمات، بعد أن انفكّ تعويلها على فلسفتي اللغة والعلم وانفتحت على الحقول الأخرى، مستحضرةً في انفتاحها هذا مناهجها وأدواتها التي أضفت حضورًا مميزًا وذو جِدّة في الفنّ، كمساهمات ريتشارد فولهايم، وآرثر دانتو، وكيندال والتون، ونيلسون جودمان الذي سعى لبرهنة فعالية طرائق المنطق والإبستمولوجيا في معالجة المسائل الإستيطيقية.
وكذلك ما حدث من ثورة في هذه المباحث عبر ربطها بالعلوم النفسية والإدراكية وعلم الأعصاب. ليس هذا فحسب، بل حتى إسهامات الأنثروبولوجيا والبيولوجيا والسسيو- بيولوجيا، باعتبار الفنّ ظاهرة كونية ونزوعًا في السلوك البشري، وجملة سلوكيات لا جملة موضوعات تكشف المجتمع البشري منذ ما قبل التاريخ وحتى الآن. فضلًا عن تنامي النشر في مباحث جديدة كجماليات البيئة، والفنّ النسوي، والجماليات الثقافية البينية، ودراسات الاستعمار وعلاقتها بالمتاحف وفنون الشعوب، والعلاج بالفن، وكذلك التفرع والتخصص الدقيق في مجالات الفنون المختلفة.
وهذا الشحّ ليس على الصعيد الفلسفي والعلمي فقط، بل هو كذلك في كتب شروحات الأعمال الفنية، وأدلة سبر أغوارها وفهمها، ولعل هذا النوع من الكتب هو أكثر ما كانت ترِدنا حوله الأسئلة وطلب التوصيات، فهي مظانّ الفهم المباشر للّوحات والأعمال الفنية، وبالتالي التقدير وعيْش التجربة الجمالية بكثافة لدى محبّي الفنون. فحتى لو أنّ الأصل في العمل الفني هو كونه منطوٍ على ذاته ومكتفيًا بها، إلا أنه قد لا يكون واقفًا بمفرده، أو شارحًا لذاته، فيحتاج المتلقي لمعرفة إضافية لم تتمثّل في العمل الفني، لتهيئته وزيادة الانتباه الجمالي لديه، وتكوين التقدير اللازم عنده، وإثراء التجربة الجمالية بشكل عام وتكثيفها. كمعرفة نشأة العمل الفني، وعصره، وسياقاته، والحقائق والمعارف ذات الصلة، وأعمال أخرى ذات ارتباط به، وربما كشف حياة الفنّان نفسه، وكذلك تفكيك العمل إلى عناصر وإخضاعها لمجهر التحليل والنقد. وهذا التقدير والاستمتاع الجمالي عمومًا أمر لا يحدث عند الشخص دفعة واحدة، بل هو عملية نامية ومتدرجة وتراكمية لمواجهة الأعمال الفنية وفهمها، والكتب من أفضل الوسائل المغذّية لهذه العملية.
إننا نطمح ألا يكون هناك حراك في الترجمة الكاشفة لهذا المجال الثري وحسب، بل إنتاج سعودي وعربي أصيل في الفن بجوانبه المتعددة؛ كالفن التشكيلي، والعمارة، والنحت، والنقد، وتاريخ الفن، والآثار، والتصوير الفوتوغرافي، وكل ما يتقاطع معه... وأن نعود إلى تراثنا الجمالي المُهمل - لا سيَّما الجماليات الوسيطة وإسهامات الفلاسفة والمفكرين والمتأدبين والحِرفيين فيها - الذي كان يُعلي من شأن الحُسن، والإتقان، والبهاء، وإشباع الحواس، بعينٍ فاحصة، وذهنية متنبهة لإسهاماته العملية والتنظيرية وتفاعلاتها عبر التاريخ حتى وقتنا الحاضر.
الرؤية والطموح
إلى جانب المنصة ودار النشر، ستعضُد موادَ متنوعة أخرى عبر حسابات التواصل الاجتماعي، ستنشُر بالتوازي روائع الفن من مختلف الثقافات والمدارس والاتجاهات، وكذلك الإنفوجرافيك، والشذرات المعرفية والجمالية، والمقاطع المرئية.
يأتي كل هذا ضمن حزمة مشاريع أخرى مستقبلية لشركة «سارت للفنون»، التي ستُيمِّم وجهها أيضًا شطر الفعاليات الفنية، والتدريب، والمتاحف والمعارض، وتمثيل الفنانين، والخدمات المتعلقة بالفنون؛ كالكتابة، والأبحاث المتخصصة في الفنون، والتحرير، والتصوير، والطباعة والنشر، والتصميم... وغير ذلك بأيدي المبدعين والمتخصصين ذوي الكفاءة، لتكون الوجهة الأولى للفنون والجماليات والمشاريع المتعلقة بها.
لدينا حراك ثقافي وفني آخذ في التشكُّل والتكثُّف، وسياسات دعم للمبادرات والمشاريع، واهتمام بالفنانين والحِرَفيين والتراث، ونمو ملحوظ لسوق الفن؛ وكل هذا منبثقٌ عن إرادة سياسية واستراتيجيات مرسومة، وجمهور وفي للفن ومتشوق له. ونريد أن نخرج جميعًا رابحين من هذا، وفي المقام الأول الفن؛ لا سيَّما وأن النسق الثقافي الحالي لدينا يتسم بالتسامح والتصالح ويُرحِّب بجميع أشكال الفن وأساليبه، حيث لا يوجد صراع بين النخبوي والجماهير، أو تقليل للمتلقي مقابل تبجيل للخبير والمختص.
إننا نتمنى ألا يُنظر إلى الفن بوصفه ترويحًا وترفيهًا فقط؛ معزولًا ومقطوعًا عن الواقع ومُفارقًا تمامًا للمجتمع، بل أن تكون انشغالاته الأساسية بهمومنا الثقافية والجمالية والفنية التي تمسّ مجتمعاتنا وواقعنا المباشر. إننا نطمح أن تكون لنا أصالتنا الجمالية، ونرجو أن يندمج الفن بحياتنا اليومية، وأن تُسدَّ فجوة شح المتاحف والمعارض، ويتكثّف حضور الفن في الفضاء العام.
كما أننا لا نُريد أن نتخفَّف من مقتضيات التفكير الجمالي لصالح الاستهلاك الثقافي، أو أن يُغفَل الجمالي أمام صيت الأسماء والجهات. ونتمنى ألا ينعزل الفنّانون في مراسمهم، فلا يعرفهم إلا أقرانهم ومنظمو الفعاليات وجامعو اللوحات، بل أن يصلوا إلى عموم محبّي الفنون. ونطمح أن يحاذي روّاد الفن روّادًا في المعرفة المتخصصة في الفنون والنقد، وإدارة الأعمال المتعلقة بالفنون.
إن «سارت» وجهة جديدة واعدة في الفنون والجماليات، تطمح أن تكون حلقة وصل وتفاعل في المشهد الفني والثقافي بين جميع الأطراف؛ فالمجتمع الفني والثقافي عمومًا مجتمع تفاعلي ولا يمكنه أن يكون غير ذلك. ومنصة «سارت» فضاء رحب لجميع الفنانين ومحبي الفنون، وأفقٌ للمساهمة والإثراء، ولحرية الحكم الفني، وللتواصل والتبادل. ونحن نتمسَّك فيه بالرهان على الجمال، وكوننا كائنات جمالية تنتج الفن وتتعاطاه، وأن علينا أن نستجيب لحاجات التفسير وإبانة المعنى، والمطالعة والمشاركة معًا.