الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه

single

سليمان منصور، 1981

هند مسعد

تصطدم التجربة التشكيلية الفلسطينية عادةً بالواقع المتأزم الذي تنمو وتُقدّم فيه، وبالتالي ليس من الممكن فهم خصوصية الفن التشكيلي الفلسطيني دون استيعاب سياقه التاريخي الذي نشأ فيه منذ حرب الـ 48 وما قبل ذلك، لأنّ التجربة التشكيلية الفلسطينية في حين أنها تشترك مع كافة التجارب التشكيلية لكل منطقة وشعب من ناحية كونها تمثيلًا لهذا الشعب أو تلك المنطقة وناطقة باسمه وطباعه وعاداته وتقاليده، إلا أنها تختلف عن أي تجربة تشكيلية أخرى لأي شعب أو أمة من حيث كونها نتاج فترات طويلة ومعقدة من الثراء الثقافي تارة ومن الاحتلال وحتى الاغتيال تارة أخرى.

 

صباح هادئ، سليمان منصور، 2009

الاغتيال أصدق أنباءً من الكتب. هل كان رسّام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي مُسلحًا يقطن في قطاع غزة عندما اخترقت رصاصة وجهه واستقرت في رأسه؟ لقد أدخلته تلك الرصاصة في غيبوبة وتوفي في لندن على إثر ذلك، ما نوع الإرهاب الذي مارسه ناجي العلي ضد إسرائيل؟

أجاب ناجي العلي بنفسه على هذا السؤال قبل أن يموت، حين سُئل متى يرى الناس وجه حنظلة، فأجاب: عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته. فما وجه التهديد الذي تحمله تلك الكلمات؟

الأشجار تزهرُ في قيودي

هذا ما يؤكده محمود درويش، بضعُ حجارة وأسلاك على الأرض لم تبلغ قط سماء الروح، لم يمت الفن الفلسطيني باغتيال ناجي العلي لم يمت حنظلة نفسه باستشهاد ناجي العلي، لم تنتهِ الأدبيات الفلسطينية بتفجير سيارة غسان كنفاني، لا تنتهي قصة الشهداء بموتهم، بل على العكس، تبدأ من جديد.

تلك هي مأساة المحتل. لماذا لا يخضع خيال الفلسطينيين لنير الجدار العازل والسياج الحديدي الشائك؟ لماذا ينبعث من أحزانهم وميضًا لامعًا كالنجوم؟ لماذا يعيش الشهيد أطول من القاتل؟ لماذا يقف الفن الفلسطيني كمرآة تُذكّر الناس بماضيهم وحاضرهم وإنسانيتهم وحتى إمكانيتهم؟ لأن هذا الفن يضرب بجذوره في فترات ما قبل التاريخ.

ثيابٌ نسجها الكنعانيون

أقام وعاش ومات الكنعانيون، في فلسطين، وسط ممالك ما قبل الميلاد، يظهر اسم «كنعان» نفسه بالهيروغليفية كـ k3nˁnˁ على لوحة مرنبتاح في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وهم ليسوا مجتمعًا أو شعبًا واحدًا بل عدة شعوب؛ أسسوا قرى وتجمعات امتدت من غرب البحر الأبيض المتوسط إلى حدود سواحل المحيط الأطلسي.

 

لم يكن الكنعانيون مجرد مقيمين على تلك الأرض، كان لديهم حسًا فنيًا فريدًا بالرغم من بدائية العالم في مراحل ما قبل التاريخ. عبّروا عن أنفسهم وهويتهم ورؤيتهم للعالم عبر تفاعل معقد بين الرسم والنحت والنقش وحتى العمارة. قنوات مختلفة، وأساليب متعددة كلها تعبر عن روح إنسانية واحدة ومشتركة وهي أول الخيط في هذا الثوب الفني الطويل والجميل.

مثلهم مثل كل ممالك العالم القديم، نسج الكنعانيون ثوبهم الفني متشابكًا مع الحضارات المجاورة، والتي كانت آنذاك بلاد ما بين النهرين [سومر، أكد، آشور، وبابل] ومصر واليونان وقبرص. فأظهروا براعة خاصة في الرسم على السيراميك والنسيج والنحت وصناعة المفاتيح الكبيرة للمنازل، نعم نفس المفاتيح الكبيرة التي لا يزال يحملها ويحتفظ بها المُهجّرون منذ حرب 48 حتى يومنا هذا. تلك المفاتيح هي عمل فني متوارث منذ عشرات القرون!

 

جعران بتصميم أسد يمشي، فنان مجهول، ما بين حوالي 1648-1539

 

المسيح في بيت لحم

امتد نسيج الثوب الذي بدأ الكنعانيون حياكته، منذ ما قبل الميلاد إلى ما بعد الميلاد، مع بدايات العصر المسيحي. تراث يحمله أهل الأرض يتغير الإنتاج وطبيعته بتغير الحقب والمفاهيم والديانات لكن لا تتغير الهوية الأصلية للسكان، استوعبت أرض كنعان عدد كبير من الكنائس والفنون الأيقونية المسيحية بحكم الطبيعة التاريخية لسكان الأرض المنخرطين منذ فجر التاريخ في التعبير عن الدين بطريقة فنية. بنيت كنيسة المهد على هذا الأساس إذن، في نفس الموضع الذي ولد فيه المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ وعلى يد الإمبراطور قسطنطين عام 335. ثم حين انتصر قسطنطين ونجا المسيحيون من عصر الاضطهاد انتعشت الفنون الأيقونية في أرض فلسطين وشملت قصص وأيقونات القديسين. زيارة بسيطة لقرية أبو غوش الفلسطينية، في الشمال الغربي من مدينة القدس، تُظهر الإرث الفني المسيحي الأقدم ليس من إسرائيل. تضم القرية معلمان مسيحيان، أحدهما في وسط القرية، وهي كنيسة عمواس البندكتية التي تعود إلى زمن البيزنطيين، والآخر كنيسة نوتردام الكاثوليكية.

كل تلك المعالم كانت تنقل على يد الرسّامين الذي صحبوا الحملات الاستعمارية وكانت تُقدم كمعالم فلسطينية، في الوقت الذي كانت فيه الأرض كلها من بحرها لنهرها فلسطينية. نظرة خاطفة على لوحة «كنيسة القيامة تحت الحكم العثماني» المرسومة عام 1810، على يد الإيطالي لويجي ماير (1755-1803)، رسّام الإمبراطورية العثمانية الشهير، تُكذب عشرات السرديات الإسرائيلية. 

كنيسة القيامة من المناظر في الولايات العثمانية، في أوروبا، آسيا، وبعض جزر البحر الأبيض المتوسط (١٨١٠)، لويجي ماير (١٧٥٥-١٨٠٣).

هذا التاريخ لم ينسب لفلسطين في شهر أو سنة أو حتى قرن، بل على مدار قرون، حتى صار مستقرًا في الأذهان ومتعارفًا عليه كفنٍ معماريٍّ فلسطيني. هكذا هو من الأزل وسيظل كذلك للأبد. لم يطمس المسلمين أنفسهم الفن المسيحي حين حلّوا بفلسطين، لم ينقل الاستشراق في العصر العثماني المعالم الفنية والمعمارية، إلى أوروبا، تحت اسم مغاير لما كانت تعرف عليه قبل الفتح الإسلامي.

مرآة إسلامية لفلسطين

إذا ما نظرنا في المرآة الإسلامية للفن الفلسطيني سنجد أنه يعكس تراثًا غنيًا تميز بالتركيبات الهندسية والزهرية الزخرفية، والخطوط المعقدة، والمواد المتنوعة، عبر مراحل مختلفة، بداية من الحقبة الأموية وصولا إلى ما قبل الاستعمار الإنجليزي، وصل الفن فيها إلى مستوى عالٍ من العظمة ممتدًا إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية والعرقية بحكم الطبيعة الكلية للأمة العربية والإسلامية. وقد حافظ الفن الإسلامي في فلسطين على صبغته التاريخية الكنعانية لكن الثياب اتسعت وامتزجت بالسياق الذي تفرضه الظروف التاريخية والتجارب الفنية التي وصلت لفلسطين في فترة الفتح الإسلامي، يتجلى الفن المتجذر في العقيدة الإسلامية والتأكيد على التواضع في أشكال مختلفة مثل المجوهرات والمصنوعات اليدوية، والسيراميك والزجاج والمعادن. واستخدام الأقواس فوق الشبابيك للحصول على أكبر قدر من النور وهي عادة استمرت حتى في الأبنية الحديثة.

 

نُزُل يعود بناؤه إلى 200 عام بالناصرة. 

بداية الاحتراف كانت في عهد الأمويين، والذين اشتهروا بالمباني ذات الطراز المعماري البسيط، والراقي في آن، وكان ذلك دأبهم في الأرض المقدسة، حيث بنوا أربع قصور لا تزال شامخة حتى اليوم، موجودة في جنوب وغرب المسجد الأقصى. وكانت عبارة عن طابقين على الأكثر. وقد استمرت العادة المعمارية الأموية لفترة طويلة من الزمن فتجد أن العديد من البيوت التاريخية الأثرية القائمة في فلسطين تحتوي على فناء وأعمدة تفصل بين الأروقة.

 

 استمر الفلسطينيون في استخدام الحجارة المرصوفة في البناء وأقاموا المنازل بشكل وأسلوب شبه هندسي قريب من الطابع الأموي. لا عجب أيضًا أن تحتوي العديد من البيوت في فلسطين التاريخية والشام ككل على نافورة وحدائق صغيرة في الأفنية، لأن هذا الطابع كان مميزًا للعمارة الأموية، وظل متوارثًا حتى بعد انقضاء عهدهم. يمكن القول إنّ العمارة الأموية، وخاصة في المساجد مثل قبة الصخرة، قدمت تصاميم فريدة تجمع بين الهياكل المثمنة والأقواس المدببة والألواح الرخامية والفسيفساء بروح عربية وإسلامية لا لبس فيها وربما كان مرد ذلك لقوة الدولة الإسلامية الناشئة. نفس تلك الروح انتقلت للعصر العباسي الذي شهد تحولاً إلى الطوب والأكتاف فوق الأعمدة والتخطيطات المستطيلة؛ لا سيما في بغداد وبلاد الشام. لكن تظل إحدى أبرز البصمات الإسلامية التي تُركت في فلسطين هي بصمة سليمان القانوني، حيث أمر بالعديد من عمليات إعادة البناء للمباني المتهالكة. كذلك كان مهتمًا بتشييد الأحصنة. كما أمر ببناء المؤسسات الخيرية، مثل مؤسسة السلطان الحساكي. وأدخل تطورات في نظام المياه والري في المدينة أيضًا. خضعت قبة الصخرة للتجديدات، في عهده أيضًا، حيث تم اعتماد غطاء من بلاط السيراميك الفاخر، ونوافذ من الزجاج الملون، وألواح رخامية وهو مَن أمر ببناء باب العامود. وهو منذ ذلك الحين المدخل الرئيسي للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق. ويمكن القول إن فلسطين تحت حكم السلطان العثماني سليمان القانوني شهدت إنجازات ملحوظة في البناء والتشييد بشكل عام، ويعتبر عصره هو العصر الذهبي للفن في الأرض المقدسة. ولا تزال المعالم والأبنية التي أمر ببنائها، وإعادة ترميمها، هي الأبرز والأكثر تمييزًا للمدينة وحفاظًا على الهويّة.

باب العامود (حوالي سنة 1900)

الفن التشكيلي الفلسطيني بعد حرب 48

كان الانتداب البريطاني في فلسطين يهدف إلى السيطرة على التعليم، وكان تجهيز فلسطين لاستقبال اليهود الذين رفضتهم أوروبا يجري على قدم وساق تحت رعاية الاستعمار البريطاني. في هذا السياق تم طمس معظم النشاطات الفنية العربية الفلسطينية في الأرض المقدسة لصالح المُثُل الصهيونية التي كان يجب أن يكون لها اليد العُليا على الثقافة العربية. وكانت سلطات الانتداب البريطاني، في سبيل ذلك، قد استبعدت المناهج العربية وكل ما كان يُعرف بأنه مقررات إبداعية، لطمس أي هوية وطنية فلسطينية. وفي المقابل، أكد التعليم الصهيوني على الهوية الوطنية من خلال الفنون والثقافة. وعلى الرغم من هذه التحديات، أدت التغيرات في الحياة والتجارة والتنمية الحضرية إلى ظهور فنانين بصريين فلسطينيين، أكثر موهبة وثراء مما هو متوقع، وربما يُعزى السبب في ذلك لكون القيود التي فرضت مِن قبل الانتداب البريطاني كانت بشكل ما محفزًا لثورة فنية.  بالتالي، يمكن اعتبار أن العام 1948، هو بداية انطلاق الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية. لأنه بعد مجازر وجرائم الهجانة والتهجير القسري والإعدام الجماعي لقرى بأكملها، ظل هناك، وبالرغم من كل شيء تجمعات فلسطينية ضخمة رفضت أن تترك الأرض وفضلت انتظار الموت على التهجير، هؤلاء هم: الفلسطينيون في الضفة الغربية لنهر الأردن، الفلسطينيون في قطاع غزة، وثالثها، الفلسطينيون الذي بقوا ضمن ما يسمى بحدود الخط الأخضر (فلسطينيو 48).

بائع حلوى ومدرس رسم

هنا يبرز الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط [1930 - 2006]، ليس فقط كواحد من رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، بل يمتد أثره لما هو أعمق من ذلك، حيث يعتبر مؤسس الحركة التشكيلية الفلسطينية الحديثة التي أثراها وأجج لهيبها ما قام به الاستيطان الصهيوني لأرض فلسطين. 

ولعل العجب في حاله شموط والسبب في كونه رائد ومؤسس للفن التشكيلي الفلسطيني ليس عائدًا لموهبته وحساسيته الفريدة في تصوير المشهد الفني الفلسطيني فقط، بل لكونه هو ما هو عليه. إسماعيل شموط. الطفل الذي ولد في اللد لبائع خضروات ذو عائلة كبيرة العدد نسبيًا، أُجبر هو وعائلته على الخروج من منزلهم أثناء هجوم الجماعات اليهودية الصهيونية المسلحة على مدينتهم ثم بعد مسيرة طويلة سيرًا على الأقدام انتهى بهم الأمر للاستقرار في مخيمات اللاجئين في خان يونس بغزة.

إسماعيل شموط، 2004

وهكذا، عاش شموط في ظل ظروف قاسية للغاية، وكبر كما يكبر كل فلسطيني تحت تأثير القضية التي ستشكل كيانه ووجدانه للأبد. عمل شموط كبائع حلوى قبل أن يتطوع لتدريس الرسم في مدارس اللاجئين. وكان يعاني كدر العيش وضيق ذات اليد. ومع ذلك، تجد أن السمات الرئيسية المسيطرة على أعماله الفنية هي سمات فلسطينية عامة بامتياز. فلا يكاد يكون هناك أثر لمعاناته الشخصية أمام المعاناة العامة للشعب الفلسطيني.  نرى مثلا في لوحته الشهيرة "إلى أين؟"، التي رسمها عام 1953، تصوير قاتم وتراجيديّ لحالة التهجير القسري التي عاشها الفلسطينيون في حرب 1948، بالرغم من أن العناصر المعروضة في اللوحة محدودة وبسيطة لكنها تعبر تعبير كلي عن الحالة الفلسطينية بشكل عام. أب يحمل طفله في قيظ صحراوي، طفلان آخران يمشيان على الأرض، لا تحتوي اللوحة على أي معالم لمكان تواجدهم، ولا يعبر وجه الأب بأي شيء غير المأساة الفلسطينية!

معاجم نبيل العناني

هذا الإرث الثقيل يتناوله التشكيلي الفلسطيني نبيل عناني، ولد عام 1943، كما تناوله شموط. اشتهر عناني بمساهماته الكبيرة في الفن الفلسطيني المعاصر. وامتدت رحلته الفنية لعقود من الزمن، ويشتهر بإتقانه للعديد من الوسائط الفنية، بما في ذلك الرسم والنحت، وغالبًا ما يمزج بين الزخارف الفلسطينية التقليدية والتقنيات الفنية الحديثة. وتعكس أعماله وإبداعاته بوضوح جوهر التاريخ والنضال الفلسطيني.

يمتد تأثير نبيل عناني إلى ما هو أبعد من مهاراته الفنية الفردية، حيث يعكس في المشهد الفني الفلسطيني بأصالته وخصوصيته الثقافية المتوارثة منذ الكنعانيين وتظهر حتى النسوة في أعماله فلسطينيات حتى النخاع. أعمال عناني هي بذلك أقرب لمعجم فلسطيني ناطق، ومثل العديد من التشكيليين الفلسطينيين نرى في أعماله سرد كامل للمأساة الفلسطينية. يكفينا التمعن في إحدى لوحاته لنفهم كيف يحمل الفلسطيني الوطن في داخله وإن حاولوا تهجيره.

جمل المحامل

 يستلم «جمل المحامل» لسليمان منصور حبكة السرد من هذه النقطة، ويستمر غزل الثياب الكنعاني، وإن كان في شكل لوحة، فهي تصوير رمزي لحمال فلسطيني يحمل ثقل القدس على كتفيه. مكتبة بصرية كاملة في لوحة واحدة. وكعادة منصور في تصوير الفلاحين والنساء المزينات بالزي الفلسطيني التقليدي، تقدم لوحة «جمل المحامل» تعرف أيضًا باسم «العتّال الفلسطيني»، صورة مؤلمة لكن واقعية عن النضال الفلسطيني.

 

جمل المحامل، سليمان منصور، 1975

 

منصور نفسه يؤمن إيمانًا راسخًا أن الفن محفز ناجع وفعال لإحياء الهوية الفلسطينية والحفاظ عليها ويعكس هذا في تصويره للمناظر الطبيعية والأشخاص الذين يسكنونها. في رسمته الأولى مثلاً عن يوم السجين التي رسمها عام 1890، نجد الشال الفلسطيني طيرُا يفر من قضبان السجًان. عناصر بالرغم من شموليتها وطبيعتها العالمية يستطيع سليمان توظيفها لتعبر عن الحالة الفلسطينية على وجه الدقة.

 

يوم السجين، سليمان منصور، 1980

زيتونة الفن التشكيلي الفلسطيني 

بالرغم من المحن التي يواجهها الشعب الفلسطيني، بما في ذلك التهجير والسرقة الثقافية، فإن صموده وهويته الوطنية لا تزال قائمة من خلال الحفاظ على تراثه. ولعل أكثر ما يميز التراث الشعبي الفلسطيني على وجه التحديد، على عكس المساعي الأكاديمية الحصرية، هو تعقيده البليغ وفلسفته العميقة التي تأبى أن تنكسر في وجه آلة الدعاية الإسرائيلية. نرى مثلا في أعمال الفنانة الفلسطينية، تمام الأكحل، هذا السحر البليغ والبسيط في آن. سحر كل ما هو فلسطيني قلبًا قبل أن يكون قالبًا. فالفنانة التشكيلية الفلسطينية ابنة يافا المولودة فيها عام 1935 ميلادية شردتها النكبة مع أهلها إلى بيروت عام 1948 ميلادية. وهناك، درست وعاشت ثم انتقلت للقاهرة فحصلت بكالوريوس الفنون الجميلة في القاهرة. قدمت طوال مسيرتها الفنية العديد من المعارض التشكيلية مع زوجها الرسّام الشهير إسماعيل شموط لكنها اختلفت عنه في الأسلوب وطابع السرد. تستكشف تمام جماليات الفولكلور الفلسطيني في أعمالها، حيث تصور العادات والتقاليد والأزياء الشعبية. تصور لوحاتها مشاهد الزفاف والحياة اليومية الفلسطينية بشكل واضح، وتتطور من تسجيل الواقعية إلى الأسلوب الانطباعي، مع التركيز على التعبير اللوني. تنتقل من طفولة مريحة إلى حياة النزوح، حيث يتناغم فنها بين العناصر الهندسية والمعمارية، ملتزمة بالمبادئ الحداثية.  تستخدم تمام بمهارة لوحة ألوان غنية مستوحاة من التراث الفلسطيني لخلق تمييز بصري. تتعاون مع زوجها في رسم الجداريات، وتروي الرحلة الفلسطينية، وتتناول المأساة والتهجير والمقاومة. ويكفينا التأمل في معرض السيرة والرحلة لنقرأ توثيقها البصري الفريد للصمود الفلسطيني، مما أكسبها لقب "زيتونة" في الفن التشكيلي الفلسطيني، ليس فقط بسبب تمسكها بالتراث، بل لأن مساهمتها تُمثّل خروجًا كبيرًا عن التأثير الفني الغربي.

 

الحزن الصامت، فيرا تماري

تنحدر تماري من القدس، وانغمست في عالم الفن، وتلقت تعليمها في بيروت، إيطاليا، وأكسفورد، مع التركيز على الفنون البصرية، وتاريخ الفن، والهندسة المعمارية الإسلامية. تقوم حاليًا بنقل المعرفة كمحاضرة في الفن الإسلامي والعمارة في جامعة بيرزيت، بينما تقوم في الوقت نفسه بتأسيس والإشراف على عمليات متحف التراث والمجموعات الفنية والمعرض الافتراضي. تدور معظم أعمال تماري حول استكشاف موضوعات مثل الذاكرة والهوية.

سترسم وتنحت وتزدهر الكثير من الأعمال الفنية والكثير من الثياب الفلسطينية الكنعانية الأصيلة، ستجد لنفسها صدى في أوساط الفنون التشكيلية والمعارض الفنية والمتاحف ودور العرض، وسينجح الفن الفلسطيني دائمًا في أن يجد لنفسه مساحة من الحرية والاعتراف، وستظل فلسطين كما هي فلسطين، تنجب زيتونًا وشهداء وفنًا ومعنى وهوية لا يمكن طمسها.
 

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

زها حديد: بعيدًا عن الاعتيادي والتقليدي