البراديغم الجماليّ

single

جوزف بوشرعه

 

عندما نتأمّل في تاريخ الفنّ يغلب على تصوّرنا الأنموذج التّقدّميّ، فننزع إلى تقسيم الأنماط الفنّيّة التي ظهرت في التّاريخ البشريّ إلى مراحلَ متعاقبةٍ تتقدّم كلّ واحدةٍ منها على الأخرى. وحتمًا يتضمّن هذا التّصوّر اختزالًا للتّجربة الفنّيّة، ولكنّه مبسّطٌ، خصوصًا أنّ الدّماغ البشريّ نفسه مصمّمٌ لتبسيط الأمور. ولكنْ لم يكن لدى هذا الأنموذج التّعاقبيّ التّطوّريّ بناءً فلسفيًّا، إلى أنْ برز هيغل «G. W. F. Hegel» وقدّم تسلسلًا منطقيًّا لقراءة تاريخ الفنّ أساسه لاهوتيٌّ ذاتيٌّ. وقد شاعت هذه القراءة الفلسفيّة، حتّى باتت معيار فلسفة تاريخ الفنّ. وليست مواقف الفلاسفة اللّاحقين، مثل الماركسيّ الهنغاريّ أرنولد هاوسر «A. Hauser» (صاحب التّاريخ الاجتماعيّ للفنّ «The Social History of Art») سوى اعتماد المقاربة الهيغليّة عكسًا، أي لا يزال المنطق الهيغليّ يسير تيّارًا هادئًا تحت عناوينَ مختلفةٍ، حيث يأطّر منظور النّاظر في سياقٍ تقدّميٍّ. لذلك لا يمكن فهم الجماليّات الهيغليّة ومشكلتها إلّا عند الاطّلاع على المنطق الهيغليّ لمحاولة تقديم مقاربةٍ جديدةٍ لا تسقط المعطيات الجماليّة كلّها.

المنطق الهيغليّ والجماليّات

يصعب علينا فصل فلسفة هيغل في الفنّ عن فلسفته العامّة التي تشمل الدّين، والتّاريخ، والسّياسة، وإذا أمكننا تلخيصها لقلنا عمومًا إنّها دراسة المسار الجدليّ للفكرة الشّاملة «Begriff» أو الرّوح/العقل «Geist» عبر التّاريخ، وتمظهرها في الفنّ والحكم، والدّيانة، والحضارة.... ولكنّ هذا التّعبير الهيغليّ لا يفيد الفهم، بل يزيد التّعقيد، والفلسفة الهيغليّة معقّدةٌ. لذلك ستؤول محاولة اختزال فلسفة هيغل في مقاطعَ إلى الفشل المحتوم، وعلى الرّغم من ذلك يمكننا فهم الأصول اللّاهوتيّة والفلسفيّة التي انطلق منها الفيلسوف: (1) قصّة سقوط الإنسان، أو ووقوعه في الخطيئة (النّقيض لحالته الأولى الخيّرة)، وخروجه إنسانًا جديدًا، حيث «قالَ الرَّبُّ الإِله: هُوَذا الإِنسانُ قد صارَ كواحدٍ مِنَّا، فَيَعرِفُ الخَيرَ والشَّرَّ [...]» (سفر التّكوين 3:22)، أي بات الإنسان مركّبًا، (2) فلسفة هيرقليطس (وضمنًا زينون الإيليّ) حيث تحكم الحركة الكون، فلا يوجد شيءٌ جامدٌ بل كلُّ شيئٍ يتحرّك. وقد رأى هيغل في الوجود تغيّرًا وتحوّلاً لامتناهيًا، حيث تولد الأشياء كلّها لتفنى، أو أقلّه تموت جزئيًّا، ومن موتها تولد الأشياء الجديدة، وهذا ما دعاه هيغل الجدليّة (أو الدّياليكتيك) «Dialektik» (إمام، 2007، ص 39-50). فالكون مليءٌ بالمتناقضات، ولا تنشأ الأفكار الجديدة إلّا من تعارضها أو تصارعها. «ويعتقد هيجل أنّ المتناقضات "Les Opposés" تتوافق في إطار حيويّة الحياة دون أنْ تفنى. وهذا هو المعنى العميق الذي يتبلور فيه جدل الحياة. فلو حدث إبعادٌ نهائيٌّ للنّقيض - وهذا مستحيل - لأدّى ذلك إلى حالةٍ من الرّكود يغمرها فناءٌ نهائيٌّ لحركة الجدل برمّتها. ولو حدث هذا الأمر لظلّ الكون بدون تجديدٍ. وهنا يمكن استنتاج الدّور الجوهريّ الذي تقوم به الحركة في الوجود» (الشّين، 1994، ص 176).

 

جورج فيلهلم فريدريش هيغل مع طلابه، 1828، فرانز كوغلر

 

يشكّل هذا المنطق الذي طوّره هيغل ركن فلسفته، ومرتكز انطلاقها. إنّه المنهج الذي سار وفقه كي يتتبّع تطوّر الرّوح أو الفكرة الشّاملة. والمقصود بالرّوح هو اللّه مجرّدًا من الإسقاطات البشريّة، كالغضب، والحنان، والرّأفة، وما شابهها من المشاعر التي يلحقها أهل اللّاهوت بالمطلق «Absolute». وإذا جاز التّعبير، إنّ الإله الهيغليّ هو الإله الفلسفيّ الذي يعي نفسه في كلّ مرحلةٍ «يتجسّد خارجيًّا» فيها (أي ما يعرف بمفهوم «exteriorization») يظهر نقيضٌ له، ثمّ يصبح مركّبًا، والمركّب نفسه يكون قضيّةً وتنشأ له نقيضةٌ... وعلى هذا النّحو يكمل الإله مساره الجدليّ إلى أنْ يعي ذاته تمامًا. واختصارًا تسير الجدليّة الهيغليّة وفق ثلاث مراحلَ: من الوضع (القضيّة «thesis»)، إلى الرّفع (نقيض القضيّة «Antithesis»)، إلى التّركيب (مركّب القضيّة ونقيضها «Synthesis»). إذ «يتّحد الضّدّين في وحدةٍ فيتشكّل من هويّتهما مركّبٌ جديدٌ، لا هو القضيّة ولا هو النّقيضة، بل هو وحدةٌ جديدةٌ تحتفظ بذاتها بالضّدّين بتضادّهما في هويّةٍ واحدةٍ. فلو لم يكونا ضدّين، لا يمكن أنْ ينشأ عن هويّتهما شيءٌ جديدٌ: إضافة الماء إلى الماء لا تنتج سوى الماء. ولو لم يكونا في هويّةٍ، لا يمكن أنْ يتكوّن منهما شيءٌ جديدٌ أيضًا: الهيدروجين هو الهيدروجين وكذلك الأوكسيجين هو الأوكسيجين، وباتّحادهما فقط ينتجان الماء. فالمركّب يلغي اختلافات الضّدّين ويحتفظ بها في آنٍ واحدٍ» (ديب، 1994، ص 116)، ثمّ يصبح للمركّب نفسه، أي القضيّة الجديدة، نقيضةً، الأمر الذي يضمن الصّيرورة. وعلى هذا النّحو يستمرّ التّاريخ في حركةٍ دائمةٍ، لذلك لا يمكننا التّكلّم عن الصّيرورة خارج الجدليّة، لأنّها من نتاج الجدليّة.

إذن تفسّر الجدليّة حركة التّاريخ بوساطة فهم منطق نشوء الحضارات وزوالها، حيث تولد من اضمحلالها الحضارات الجديدة، فعندما تصل الشّعوب إلى غايتها تصل إلى نهايتها أيضًا. وهذا لبّ فلسفة التّاريخ عند هيغل. ولكنْ ماذا عن الجماليّات؟

يعتمد هيغل تفسيره الجدليّ في علم الجمال (أو الجماليّات) «Aesthetics» حيث يسقطه على أنواع الفنون كلّها: النّحت، الرّسم، الموسيقى، الشِّعر الغنائيّ، والشِّعر الملحميّ...، وقد وسّع نظريّته الجماليّة وألحق بها الأمثلة الواضحة في محاضراته التي ألقاها في جامعة برلين «Lectures on Fine Art» وقد ترجمها جورج طرابيشي ونشرها في خمسة أجزاء (راجع خصوصًا هيغل، 1988، و1986). وما يعنينا هو موقفه في تطوّر الفنّ عبر ثلاث مراحلَ جدليّة: الفنّ الرّمزيّ، الفنّ الكلاسيكيّ، الفنّ الرّومانطيقيّ (أو الرّومانسيّ بحسب ترجمة طرابيشي). ويمكن اختصارها بالآتي:

نلاحظ في العالم الشّرقيّ استخدام الرّموز والتّشابيه التي تتطلّب تأويلًا خارجيًّا، فلا اهتمامَ فيه للصّورة، بل يتضمّن مدلولاتٍ مجرّدةٍ غير واضحة المعالم، لذلك إنّ مرحلة الفنّ الرّمزيّ «symbolic art» تعدّ المرحلة الأولى من مراحل وعي الرّوح، لأنّ الإنسان لم يدرك بعد لغة الطّبيعة الرّياضيّة، أو أقلّه لم يحسن فهمها، لذلك يهيمن عليها اللّغز، أي لغز المعنى تمامًا، وهو ما يجهله النّاظر والفنّان أيضًا. ولعلّ الفنّ الرّمزيّ قد بلغ حدّه في الفنّ المصريّ القديم، إذ «يرى هيجل أنّ الحضارة المصريّة كانت تجهل ذاتها، بينما الحضارة الإغريقيّة كانت ترتكز على مبدأ «اعرف نفسك»» (محمّد، 1992 ص 32).

بعد ذلك ننتقل إلى العالم الإغريقيّ ونشوء الفنّ الكلاسيكيّ «classical art»، ونعثر فيه على تطابقٍ بين الصّورة والمدلول، أو المحتوى الباطنيّ. فتأويل الصّورة قائمٌ في مدلولها الذّاتيّ، أي يقع معناها في ذاتها. كما يتطابق الطّبيعيّ والرّوحيّ، والذّاتيّ والموضوعيّ. لكنّ هذه الذّاتيّة قد ضاقت تدريجيًّا في الفنّ الكلاسيكيّ، حتّى بات الفنّان يحاكي الإنسان الفاني أكثر من محاكاته الإنسان الرّوح. ويتظهّر ذلك في أنسنة الآلهة في الفنّ اليونانيّ والرّومانيّ، حيث أصبحت الأعمال الفنّيّة تصوّر أخبار الآلهة في أدنى مستويات الأفعال البشريّة. وبحسب هيغل بلغ الفنّ الكلاسيكيّ آخر مراحل تطوّره في الهجاء «satire» (خصوصًا الهجاء اللّاتينيّ) الذي يعبّر عن نقمة الدّاخليّ على الخارجيّ، فلا يولي أهمّيّةً للتّعبير الصّادق عن الذّات بل عن تصادمها مع الطّبيعة (المرجع نفسه، 1992، ص 70-72). وفي هذا السّياق يبرز الفنّ الرّومنطيقيّ الذي يتجاوز هذه العلاقة الجدليّة بين الخارجيّ والدّاخليّ، ويتوجّه مباشرةً للتّعبير عن الذّات التي بدورها تعبّر عن المطلق.

هكذا يبلغ الفنّ الرّومنطيقيّ «romantic art» أقصى تعبيرٍ عن الرّوح لأنّه ينصرف إلى الذّاتيّة، أي إلى تعبير الرّوح عن ذاتها اللّامتناهية بدلًا من تطابقها للخارجيّ الجسمانيّ كما كان الحال في الفنّ الكلاسيكيّ. وأوّل ما يتجلّى هذا الفنّ فهو في الفنّ الكنسيّ الذي يصوّر آلام النّفس وصراعاتها. وبلغ هذا الفنّ حدّه في مرحلة انكفاء الفنّ على نفسه، أي أصبح لدى الفنّ عالمه الذّاتيّ الخاصّ، وأشهر تعبيرٍ عن ذاتيّة هذا العالم هي مسرحيّات شكسبير التي تتعالى فيها شخصيّاتها عن التّأثيرات الخارجيّة، كالأعراف الاجتماعيّة، أو الواجبات، فتعبّر انطلاقًا من حالاتها النّفسيّة، مثل هاملت المفجوع والمهووس بالعدالة الدّمويّة لمقتل أبيه على يدي عمّه، حيث نجد أبلغ تعبيرٍ وجوديٍّ عن الذّات في كلّ مناجاةٍ تأمّليّةٍ يفردها له شكسبير. (للاطّلاع على تفاصيل تطوّر الفنّ وفق مراحل الجدليّة راجع كتاب رمضان البسطاويسي، خصوصًا الفصل الأوّل: محمّد، 1992).

إنّ «ولادة وموت كلّ واحدٍ من هذه الأنواع، الحاصلة في مرحلةٍ محدّدةٍ، تحدثُ وتتكرّر ثانيةً، دون أنّ يكون سببها نشاطٌ مخصوصٌ قام به الأشخاص (الفنّانون)، وإنّما لأنّ الذي يحتّمُ الولادات والوفيّات هي الحتميّةُ القادرةُ التي تحرّكُ التاريخ - تاريخ الفنّ كما تاريخ العالم - العقل.» (كوكلان، 2013، ص 26-27). ولكنْ هل يُختزل التّعبير الفنّيّ في إطارٍ ميتافيزيقيٍّ صارمٍ، أم أنّ المؤسّسة الجماليّة «aesthetic institution» التي تهيمن على الذّوق العامّ فرضت تصوّرها للجميل حتّى شاع، ثمّ بدا وكأنّه طبع روح العصر حتّى أُهمِل النّتاج الفنّي المختلف أو المتمايز، فسقط الأخير من المراجعات الفنّيّة؟

نقد

لا مجالَ في هذا المقال لتفنيد الجماليّات الهيغليّة، ولكنّنا أيضًا لا نستطيع تجاهل فجوات نظريّة هيغل. فالمنطلق الميتافيزيقيّ لتطوّر الفنّ، أي بوصفه تطوّر وعي الرّوح وتحرّره، يسخّف طبيعة الفنّ ويستخدمه أداةً بدلًا من كونه موضوعًا بذاته. زِد على ذلك أنّ المنطق الهيغليّ الذي تسير وفقه الجماليّات هو منطقٌ قبليٌّ «a priori» وذاتيٌّ، وإذا أردنا وصفه لقلنا إنّه خطّيٌّ «linear»، أي منطقٌ مثاليٌّ يتجاهل المعطيات الحسّيّة كلّها، بل يسخّرها في خدمة نظامٍ فلسفيٍّ محدّدٍ. ليس تاريخ الفنّ سلسلةً مستقيمةً من الأعمال الفنّيّة ذات التّوجّه الموحّد، حيث تسيطر الصّورة على المضمون (كما في التّعبير الرّمزيّ)، أو تتطابق معه (كالفنّ الكلاسيكيّ)، أو تنحسر أمامه (كما في الفنّ الرّومنطيقيّ). لذا كيف يمكننا تفسير ظهور أنماطٍ جماليّةٍ غريبةٍ في مرحلةٍ جدليّةٍ سائدةٍ يفترض أنّ الرّوح الإبداعيّة لم تبلغها بحسب التّصوّر الجدليّ؟ أي أين نضع المعطيات الفنّيّة التي لا تتوافق مع الإطار التّصنيفيّ المفترض (الرّمزيّ/الكلاسيكيّ/الرّومنطيقيّ)؟ ألا تكسر هذه المعطيات التّصوّر التّطوّريّ/التّقدّميّ للفنّ؟

لا يسعني في هذا السّياق سوى اتّخاذ مقاربةٍ جديدةٍ لفلسفة تاريخ الفنّ، وهي مقاربةٌ تعتمد أساسًا على مفهوم البراديغم «paradigm» الذي طرحه توماس كون «T. Kuhn» في رائعته بنية الثّورات العلميّة «The Structure of Scientific Revolutions».

 

براديغم، ويليام بروسكي

 

ما المقصود بالبراديغم الجماليّ؟

لاحظ طوماس كون أنّ العلم ليس تسلسل مراحلَ تتفوّق الواحدة فيها على سابقاتها، حيث يتطوّر بحسب تكثيف المحصول العلميّ، كما ظنّ أوغوست كومت «A. Comte» (في تصوّره الإيجابيّ) أو غاستون باشلار «G. Bachelard» (في تصوّره السّلبيّ). لذلك عوضًا عن مفهوم التّطوّر أو التّقدّم «progress» نعثر على مفهوم التّغيّر البراديغميّ «paradigm shift»، ويعني توصّل متّحد العلماء «scientific community» إلى إطارٍ علميٍّ مختلفٍ عن الإطار السّابق لمقاربة المعطيات الغريبة التي لا تتوافق مع التّفسير المتّفق عليه. خذ المثل المعروف الذي استعمله كون بنفسه، وهو النّظام البطليميّ الذي يفيد بمركزيّة الأرض. فقد ظهرت فجواتٌ في هذا النّظام، حيث وصلت معطياتٌ «غريبةٌ» لم تتطابق مع الإطار المتّفق عليه، أو مع البراديغم القائم، ثمّ حدثت ثورةٌ علميّةٌ غيّرت البراديغم بكامله، بل نسفته ووضعت مكانه نظامًا آخر قال بمركزيّة الشّمس، وهذا أدّى إلى ولادةٍ براديغم جديدٍ غيّر المنظور البشريّ أيضًا، وهو ما يطلق عليه كون اسم «التّغيّر الغشطالتيّ» في الإدراك «Gestalt shift»، أي تغيّر تنظيمنا للمعطيات الحسّيّة على الرَّغم من ثباتها، أي بقائها على ما هي عليه (in Losee, 2001).

وفي هذا السّياق إذا تخلّينا عن التّصوّر الجدليّ في فلسفة تاريخ الفنّ، وما قاربنا الأنماط الفنّيّة بصفتها تقدّمًا خطّيًّا، بل دوائرَ متقاطعةً «intersecting circles»، فستتوضّح قراءتنا للمسار العرضيّ للفنّ عبر الزّمن. وإنْ يخال لنا وجود عمليّةٍ تنقيحيّةٍ في تاريخ الفنّ، فلا يجب اعتبارها «تقدّمًا»، لأنّ التّقدّم يشير بالضّرورة إلى وجود أساسٍ مشتركٍ لقياسه، أي لا وسيلةَ موضوعيّة لتفحّص تقدّم الفنّ أو تراجعه المفترض. لكنْ ثمّة براديغمٌ جماليٌّ «aesthetic paradigm» متّفقٌ عليه، ويكون نتيجة توافق المؤسّسة الجماليّة القائمة على ما هو جميلٌ، حيث تحصر التّذوّق الفنّيّ وتحدّده في أطُرٍ محدّدةٍ (ويعدّ اللّاتأطير تأطيرًا في هذا السّياق)، مثل المؤسّسة الجماليّة في زمن النّهضة الأوروبيّة «Renaissance» التي ربطت معايير الجمال بقوانينَ هندسيّةٍ دقيقةٍ (in Wade, 2018). ولكنْ هذا لا ينفي وجود أعمالٍ فنّيّةٍ تخالف معايير المؤسّسة الجماليّة القائمة، وتخرج عن البراديغم الجماليّ (إلى حدٍّ معيّنٍ)، أذكر مثلًا أعمال إلْ غريكو «El Greco» في الرّسم، أو شكسبير في المسرح.

إذن يتجاهل التّصوّر الجدليّ الهيغليّ فرادة المحيط الاجتماعيّ الذي ولّد (أو ألهم) الفنّ، بل يتجاهل قيمة العمل الفنّي بذاته، ويلغي فرادته الجماليّة. فالفنّ ليس موضوعًا جامدًا ثابتًا يُدرس تحت مجهرٍ أو بوساطة أداة مقياسٍ معيّنةٍ، إنّه عرضيٌّ ونسبيٌّ حيث يمثّل كلّ نمطٍ عالمًا قائمًا بذاته، أي يكون مرجعًا بذاته. وغالبًا ما يسقط الإنسان في وهم «التّقدّم»، وكأنّ الأنماط التي تنشأ عرضيًّا عبر الزّمن لها أساس منطقيّ لا يبلغه الإنسان إلّا عقليًّا. طبعًا، لا يصعب على المرء دحض هذا التّصوّر البسيط المتفلسف لتاريخ الفنّ، ولكنّ الصّعوبة تكمن في تجاوز بساطته. لذلك اخترتُ مقاربةً جديدةً تأخذ بعين الاعتبار هذه العرضيّة، وقد تمثّلت بمفهوم البراديغم المأخوذ عن مقاربة كون في فلسفة العلم. إذ يشير البراديغم ضمنًا إلى لاقياسيّةٍ، أي يستحال مقارنة البراديغمات الجماليّة ببعضها لإظهار تقدّمٍ ما، بل جُلّ ما تفعله المقارنة هو توضيح الاختلاف بينها، ما يزيل عمليّة الحكم الذّاتيّة على ما يفترض أنّه عملٌ موضوعيٌّ.

 

 

 

 

 

المصادر

- الكتاب المقدّس، العهد القديم، دار المشرق: بيروت، ط 6، 2000.

- هيغل، الفنّ الرّمزيّ الكلاسيكيّ الرّومانسيّ، دار الطّليعة: بيروت، ط 2، 1986.

- هيغل، المدخل إلى علم الجمال فكرة الجمال، دار الطّليعة: بيروت، ط 3، 1988.

المراجع

- إمام، عبد الفتّاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، دراسةٌ لمنطق هيجل، دار التنوير: بيروت، ط 3، 2007.

- ديب، حنَّا، هيجل وفويرباخ، دار أمواج: بيروت، ط 1، تشرين الأوّل 1994.

- الشين، يوسف حامد، مبادىء فلسفة هيجل، دراسةٌ تحليليّةٌ عن الإنسانيّة والألوهيّة في كتابات الشّباب، منشورات جامعة قاريونس: بنغازي، ط 1، 1994.

- عويضه، كامل محمّد محمّد، هيجل جورج وليم فردريك دراسة وتحليل في الفلسفة المعاصرة، دار الكتب العلميّة: بيروت، ط 1، 1993.

- كوكولان، آن، نظريّات الفنّ، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع: بيروت، ط 1، 2013.

- محمّد، رمضان البسطاويسي، جماليّات الفنون وفلسفة التّاريخ عند هيجل، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع: بيروت، ط 1، 1992. 

References

- Loose, John, A Historical Introduction to the Philosophy of Science, Oxford University Press: Oxford, 4th ed. 2001.

- Wade, David, Geometry and Art: How Mathematics Transformed Art During the Renaissance, Shelter Harbor Press: New York, 2017.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

زها حديد: بعيدًا عن الاعتيادي والتقليدي