زها حديد: بعيدًا عن الاعتيادي والتقليدي

single

أسماء طرابلسي

 

زها حديد اسم وراءه شخصية قيادية رائدة في التّطوّر المعماري والتّصميم الحديث، تركت ورائها تاريخًا من الابتكار ومسارًا من مقاومة السّائد والتقليد الأعمى، فرغم تصاميمها المتحرّرة والتي اعتبرها البعض تجريديّة لا يمكن تجسيدها على أرض الواقع وستظلّ حبيسة الورق حتّى لُقّبت بـ«مهندسة الورق» إلاّ أنّ زها حديد قد حفرت طابعها المعماري المخصوص بذاته وبمفرداته المرفولوجية بين بقيّة الكيانات المعمارية في العالم.

خلافًا للعمارة الإسلامية الّتي اعتبرت شعلة يتناوب على حملها المهندس تلو الآخر، تقف تصاميم المهندسة البريطانية ذات الجذور العراقية اليوم على عتبة فارقة في تاريخها؛ إذ انفتحت بدورها على أساليب ثائرة عن الخطوط المستقيمة الكلاسيكية في البناءات الهندسية التاريخية المتداولة. 

«هنالك 360 زاوية مختلفة فلماذا نتمسّك بواحدة» هكذا عبّرت «ملكة المنحنيات» في أحد تصريحاتها الشّهيرة معتبرة أن الفنّ المعماري ما هو إلّا ابتكار وخروج عن المألوف، وقد لاقت المصمّمة طيلة مشوارها المهني إعجابًا، كما أُثيرت نقاشات حول أعمالها وأفكارها. وفي هذا الطّرح سنلقي نظرة على بعض الجوانب الجدليّة التي أحاطت بها وبمسيرتها الاستثنائية.

«لم أشكّ يوما أنّي سأصير محترفة» بهذه الجملة الجريئة تقف سيّدة المعمار بثقة أمام العالم، معبّرة عن تشبّثها بأصولها العربية رغم أفكارها المتمردة، إذ تتّسم تصاميم حديد بشيء من السريالية، فلطالما اعتقدت المهندسة أنّ المباني يجب أن تتحدّث وتعبّر عن شخصيتها وغرضها بوضوح، وهذا ما تحاول تحقيقه في كلّ مشاريعها إذ ترى أن من المهم جدًا السماح للمدن التاريخية بأن تعيد ابتكار مستقبلها، وقد أشار هايدغر إلى العمارة ليست مجرّد هيكل أو مبنى مادي، بل هي جزء من التجربة البشرية والثقافة معتبرا أنّ العمارة تشكل الفضاء والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، وبالتالي فهي تؤثر بشكل كبير على تجربته ووجوده. 

كانت زها حديد ميّالة لاستخدام الأشكال الهندسية غير التقليدية والخطوط المنحنية في مبانيها الانسيابية، حيث لا جزء عال فيها ولا منخفض، و جمعت بين الأصالة والحداثة، فاتّسمت بالذوق المتفرّد خاصة عند استخدامها لتكنولوجيا الزّجاج بغية تحقيق أغراض عديدة جماليّة، مثل الديكور  أو العزل الحراري والصوتي، وقد ساعدها في ذلك حذقها لعلم الرياضيات والجيولوجيا وعلاقتها بالهندسة، فيعدّ «مركز روزيلا» الدّزاين الشهير بكينغز كروس في لندن أنموذجا حيًا لتلك الروح الجريئة، حيث يتميز المبنى بخطوطه الملتوية بشكل لافت للنظر، وهو مثال على كيفية استخدامها الهندسة لإنشاء أعمال فنية تعبّر عن رؤيتها الفريدة.

حاولت حديد أثناء العمليّة التصميمية أن تطوّع التراث المحلي مع ما يتّفق مع صورة العصر وما تفرضه التّقنية فائقة التّطور، من دون نسخ حرفي أو تكرار مملّ للمعطيات الطّبيعية متجاوزة بذلك الأبعاد والأشكال الهندسية المتعارف عليها، هذا وقد انتهجت في ممارستها المعمارية آليّتي الحركة والفراغ وذلك وفق استخدام وتنظيم المساحات الداخلية منها والخارجية تلبيةً للاحتياجات وللأهداف المعمارية، إذ يتطلّب كل ذلك فهماً عميقًا لتدفّقات المرور والرؤية والإضاءة فيتولّد بذلك إيقاعا بصريّا يجمع بين مساحاتها الذهنية وخلفياتها الثقافية.

ويعدّ مركز العلوم بمنطقة بحيرة جورونج في سنغافورة، الّذي تمّ تصميمه على شاكلة قشرة غريبة تعلو المبنى المحاط بخمسة مستطيلات بارزة متشابكة الارتفاع، واحدًا من أبرز الأمثلة على ذلك، ممّا أثار تساؤلات حول كيفيّة تأثيرها تقنيا على المناظر الحضرية والمجتمع المحلّي، وقد عُرف هذا الأسلوب في الهندسة بالعضوي، وهو أسلوب تقني تفاعلي مع عناصر البيئة المحيطة بها، فاستغلّت جغرافية المواقع واستفادت من الطوبوغرافيا الطبيعية، الأمر الذي أضاف عنصرًا فريدًا وجماليًا لمشاريعها بابتكارات تقنية متقدّمة مستندة على البرامج الحاسوبية.

إذ ماتزال وإلى اليوم شركة Zaha Hadid Architects تعمل بالتعاون مع شركة Architects 61 على إرساء هذا المشروع الهندسي الّذي تبلغ مساحته 52460 مترًا مربعًا وفق ما يتماشى مع خطة سنغافورة الخضراء 2030 Eco-Garden، بهدف دمج آليات التصميم المستدام واستراتيجيات أداء الطاقة لتقليل انبعاثات الكربون الصافية، معتبرين أنّه مشروعا أيكولوجيا متكاملا مع تضاريس الفضاء المحيط بها، إذ أنّ الخلايا الكهروضوئية وحدائق الأسطح العازلة ستسهم في تعزيز الطاقة المتجدّدة والّتي سيساعد أيضًا على توفير عامليْ التهوئة الطبيعية ونفاذية ضوء النّهار، بما سيحقّق بذلك رفاهية للمقبلين على المركز بغاية التثقيف العلمي من جهة وذلك من خلال تصميم المختبر الأيكولوجي الرقمي eco-lab العامل على استيعاب اختراعات الشباب ومشاريع رائدي الأعمال، والتّرفيه من جهة أخرى، وذلك من خلال إرساء معرض للأطفال وتضمينه بمنطقة ألعاب مائيّة في الهواء الطّلق تسع فضول وتطلّعات الوافدين إليه.

 

ملامح من تصميم مركز سنغافورة:

 

ويُذكر أنّ المعمارية حديد قد تأثّرت طوال مشوارها المهني بأسلوب المعماري الشهير فرانك لويد رايت، فاستلهمت من فلسفته المعمارية في أغلب تصاميمها، كذلك المصمّم برات زرنيك الذي تعاونت معه في تصميم العديد من المشاريع الفنّية والتصميمات الداخلية، وتعاملت أيضا مع كل من المصمّمين باتريك شلومبرجر وكارلو مولينو في إنشاء قطع أثاث فنّية فريدة. فيما أبدت زها حديد اهتمامًا كبيرًا بالتّقنيات الحديثة، حيث استخدمت في جلّ مشاريعها آليات التكنولوجيا ثلاثيّة الأبعاد في تصميم وإنشاء المباني المتضمّنة لاستخدام برامج النّمذجة والتّحليل الهيكلي وتقنيات الطّاقة المتجدّدة لتحقيق الاستدامة، كما وظّفت موادًا مبتكرة مثل الفولاذ المقوى لإنشاء مبانٍ فريدة من نوعها.

عاشت زها حديد 65 سنة كرّستها للفن المعماري فقدّمت طيلة مشوارها 950 مشروعًا بعضهم صار أيقونيًا شأن مركز حيدر علييف في باكو، ومبنى اللن المعاصر في أوهايو ومركز الفنون الحديثة في روما ومركز روزنتال للفن المعاصر في سينسيناتي… وألهمت العديد من المعماريين الشبان معتبرين وجودها نموذجًا للشغف والتفاني في مجال الهندسة المعمارية شأن باتريك شوماكر وهو شريكها في مكتب Zaha Hadid Architects الذي عمل إلى جانبها لسنوات عديدة واستمرّ بعدها في تطوير أسلوبها الابتكاري في مجال العمارة، كذلك المهندس المعماري النمساوي وولف درينغ الذي أسّس أحد أشهر مكاتب العمارة في العالم وهو Coop Himmelbau  ، أمّا المهندس المعماري الأمريكي بيتر إيزمان لم يقتصر تأثّره بجانبها التقني والتطبيقي بل تجاوز ذلك إلى التّنظير الأكاديمي مفاهيميًا وأسلوبيًا في مجال العمارة.

 

افتتاح مصفاة «ياسرف» ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية..  الأربعاء

مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، الرياض

 

يقول فيشر «الانسان بحاجة إلى أن يكون إنسانًا كليًّا لذلك هو يسأم من الطابع الجزئي»، ولعلّ زها حديد قد تبنّت هذه الفلسفة الكونية فقد اعتبرت رائدة في مجال عملها، فهي المرأة الأولى التي حازت على جائزة «بريتزكر» المرموقة التي تعد أرفع وسام في مجال العمارة وبمثابة «نوبل» الهندسة المعمارية، وقد وسمتها اليونسكو سنة 2010 «فنانة للسلام»، كما كانت أوّل امرأة تحصل على الميدالية الملكية الذهبية للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين سنة 2016. 

رغم الجمالية والتفرّد في أسلوب زها حديد لم تخلُ تصاميمها من إثارة الجدل حولها، فقد اعتبرت مبهمة المعنى ومعقّدة إذ غالبًا ما تبدو مشاريعها مبالغًا فيها للبعض، وهذا ما يثير الانتقاد من قبل عدد من المعماريين والنقاد الذين يرون أن هذه التكاليف يمكن استخدامها بشكل أفضل في مشاريع أخرى أو في تحسين البنية التحتية الحضرية.

ويعتبر المهندس المعماري الروماني ماركو فيتروفيوس  في كتابه De architectura، الذي يعتبر واحدًا من أهم الأعمال في تاريخ العمارة والهندسة المعمارية والّذي قدّم فيه مجموعة من المعلومات والأفكار حول العمارة ومبادئها، أنّ من بين الأسس والمفاهيم الأساسيّة لتقييم الجودة في المباني: القوّة والصّلابة، فالجمال والتناسق، ثمّ الاستخدام العملي والوظيفي للبناء، هذه الثلاثية المثاليّة،  كما سمّاها فيتروفيوس، أهمّ التوجيهات والشروط لإنشاء بناء جيّد، فيما تدعونا هذه المقاربة إلى إقامة التساؤل عن مدى استجابة المعمارية حديد إلى هذه القواعد في تصاميمها.

 

أفضل 6 أنشطة في مركز حيدر علييف في باكو اذربيجان - urtrips

مركز حيدر علييف الثقافي، باكو

 

شغلت زها حديد الساحة المعمارية، خاصة وأنّ أسلوبها قد مثّل تحولًا فارقا في عالم التصميم المعماري، حيث استطاعت تحقيق أفكار وإبداعات جديدة من خلال الاستفادة الكاملة من التقنيات والأدوات الحديثة، الأمر الذي جعل مبانيها الأكثر جاذبية واستدامة وتفاعلاً مع البيئة والمستخدمين، ويثير هذا الأسلوب إعجاب البعض الذين يرون فيه تجسيداً للإبداع والتفرد، بيد أنه يثير الانتقاد من البعض الآخر الذين يرون فيه تجاوزاً للتقاليد المعمارية وصعوبة في التكامل مع المحيط المبني القائم، فقد اعتبر بعض النّقاد أنّ تصاميمها تفتقر في بعض الأحيان إلى الوظيفيّة والتفكير العملي فقد تكون غير مناسبة لاحتياجات المستخدمين بسبب تعقيد تصاميمها، أمّا بعض أعمالها الأخرى اعتبرت تجريبية ونرجسيّة فغالبًا ما تميل إلى تمييز نفسها عن بقيّة المباني المحيطة بها، هذا الانفصال قد يثير مشكلات فيما يتعلق بالتوافق المعماري مع المناطق المجاورة كما قد تتسبّب في أضرار بيئيّة خاصة وأنّها قد تستهلك الكثير من الموارد الطبيعية وتكون غير مستدامة بيئيًا، الأمر الذي عادة ما يثير مخاوف حول تأثيرها على البيئة، كما أنّ الاستخدام المفرط للتكنولوجيا إمّا أن يكون تعريفا لهوية المبنى والمكان أو يجعلنا إزاء فكرتي الاغتراب والتغريب كلًّ حسب الغرض  الذي تم تصميمه.

ويجدر الإشارة أنّ هذه التحديات ليست دائمًا سارية، بل تعتمد على الحالة الخاصّة لكل مشروع، بل ما يحسب لها أنّ مزايا تصاميمها تفوق بكثير الحدود في نظر العديد من المهندسين والعاملين في مجال العمارة علاوة على أنها سبّاقة في مجالها. 

على عكس المعماريين التقليديين الذين اشتغلوا أساسًا على نحو حيادي الملامح، أسكتت زها حديد منتقديها وأحدثت ثورة في عالم الهندسة التي لم تعد حكرًا على الرجال، وتميّزت تصاميم ابنة الشرق عن غيرها في جميع أنحاء العالم، ورغم وفاتها سنة 2016 إلاّ أنّ إرثها المعماري لا يزال حيّا وملهما للعديد من المصمّمين والفنانين.

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه