جمالية التضخيم: «فرناندو بوتيرو» ورحلة البحث عن إنسانية مكتنزة

single

فرناندو بوتيرو مع لوحاته

عبدالله العقيبي

منذ القِدم ارتبطت البلاغة بمفهوم التصغير (التقليل)، حتى باتت البلاغة عند البعض تُعَّرف بها، فقد قِيل في تعريفها قديمًا: «البلاغة التقليل»؛ أي القصد إلى عين الحجة بتقليل الألفاظ. بينما ظل الفن التشكيلي الكلاسيكي مشغولًا بمبدأ التناسب المثالي للجسد الإنساني، متأثرًا بما ورثه عن اليونان في فكرة «النسبة الذهبية». لكن فرناندو بوتيرو قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب، فبدل أن ينكمش الجسد ليتوارى في هامش الدلالة، تمدّد عنده حتى ضاق به الإطار. شخصياته لا تتقزّم، بل تتضخم، ولا تضيق، بل تتوسع إلى حدّ يبدو فيه المشهد وكأنه يهدد بالخروج من حدود اللوحة أو الكتلة النحتية.

هنا لا نجد سمنةً بمعناها الطبي أو الاجتماعي، بل «امتلاءً بالوجود»، كما يقول الناقد إدوارد لوسي-سميث: «بوتيرو لا يرسم الأجساد ببدانتها بل بفيضها، كأنها تُعلن عن فائض من الحياة أكثر مما تُعلن عن ثقلها». وفي هذا الفيض تنشأ الجمالية البوتيرية، جمالية التضخيم، التي لا تسخر من الجسد بل تحتفي به، لا تنفر منه بل تعيد إليه كرامته عبر حجم يتحدى أعراف الذوق الكلاسيكي.

واللافت أن التضخيم عند بوتيرو ليس نزوة شكلية، بل فلسفة جمالية لها جذورها في وعيه، بأن الجسد حين يتضخم يغدو مرآة للعالم. لقد قال هو نفسه ذات مرة: «أنا لا أرسم شخصيات سمينة، أنا أرسم شخصيات ممتلئة. الامتلاء عندي ضرورة فنية، لا موضوعًا في ذاته». وهنا يتجلى الفرق الدقيق: فالتكبير لا يعني التشويه، بل يعني البحث عن مساحات أوسع للجمال، كما لو أن الجسد البوتيري يحمل داخله اتساع الكون.

وإذا كانت البلاغة اللغوية قد استخدمت التصغير للتلطيف أو الإيجاز وأغراض أخرى ليس هذا محل التفصيل فيها، فإن بلاغة بوتيرو التشكيلية تستخدم التضخيم للتكبير من قيمة الوجود الإنساني. في كل وجه مكتنز، وفي كل ذراع ضخمة، وفي كل التفافة جسد تفيض على المكان، تكمن رسالة مفادها أن الإنسان أثقل من أن يُختزل، وأوسع من أن يُختصر.

الموسيقيون، 1991

في لوحة «الموسيقيون» نرى أجسادًا ضخمة تحاصر الآلات الموسيقية الصغيرة بين أيديهم. هنا يُظهر بوتيرو مفارقة بالغة الذكاء: فبينما يُفترض أن الموسيقى تملأ الفراغ، تبدو الموسيقى في لوحته عاجزة عن منافسة امتلاء الجسد البشري. يضعنا الفنان أمام سؤال: من الأجدر بالاحتفاء، الصوت العابر أم الجسد الكثيف الحاضر؟ التضخيم هنا ليس مجرد زركشة شكلية، أو تعبير كاريكاتوري، بل إعادة ترتيب لسلّم الأهمية الجمالية.

Mona Lisa, Age Twelve: A Masterpiece by Fernando Botero

الموناليزا بعمر 12 عامًا، 1977

وفي لوحة «الموناليزا بعمر 12 عامًا» نلاحظ المحاكاة الساخرة للرمز الأعظم في تاريخ الفن الغربي، يضخّم بوتيرو ملامح الطفولة ويحوّل البراءة إلى ثقل جسدي غير متوقع. يتحدى بذلك سلطة الصورة الأصلية، وكأنه يقول: حتى الأيقونات يمكن أن تُعاد صياغتها بعيون مختلفة. هنا يصبح التضخيم نقدًا خفيًا لمفهوم «المثال الأعلى» الذي كرسه الفن الكلاسيكي.

أما في لوحة «العائلة» فيبدو المشهد العائلي متماسكًا بفعل التضخيم، إذ تبدو الأجساد ككتل متلاصقة تملأ اللوحة حتى حدودها القصوى. الجسد هنا هو ما يضمن بقاء العائلة في حالة تلاحم ضروري، وكأن الامتلاء استعارة عن الدفء. بهذا المعنى، يتحول التضخيم إلى بعد إنساني محض، لا إلى مجرد أسلوب فني.

بهذه اللمحات السريعة، يتضح لنا أن التضخيم عند بوتيرو ليس «أسلوبًا» فحسب، بل هو عدسة يطل بها على كل شيء: الفن، والأيقونة، والإنسان. فالجسد المكتنز ليس موضوعًا للسخرية، بل كيانًا يفيض بالمعنى ويُربك مقاييس الجمال الشائعة.

Family Scene, 1969 - Fernando Botero

العائلة، 1969

التضخيم كذاكرة إنسانية وموقف سياسي

لم يكن فرناندو بوتيرو فنانًا منعزلًا في برج عاجي، بل حمل فنه كنوع من الشهادة على العنف والذاكرة الجمعية. التضخيم الذي يطبع أسلوبه لا يقتصر على تصوير الأجساد في بعدها الكرنفالي أو الجمالي، بل يمتد ليصبح أداة لقول ما لا يُقال، وتوثيق ما يخشى العالم توثيقه.

حين نشر بوتيرو سلسلته الشهيرة عن «ضحايا سجن أبو غريب» 2005، قدّم فعلًا فنّيًا جريئًا ضد هيمنة الصور الرسمية. في لوحاته، تتضخم الأجساد المُهانة، حتى في أقسى حالات العري والعذاب، وكأنها تُطالب بالمكان داخل الوعي البصري العالمي. هنا يلتقي الفن بالسياسة في أرقى صوره: ليس ترفًا جمالياً، بل فعلًا احتجاجيًا يُعيد للضحايا كرامتهم المهدورة. التضخيم في هذه اللوحات لم يكن زُخرفًا بصريًا ممجوجًا، بل تضخيمًا للصرخة، وتكبيرًا للمأساة، كي لا تُختزل في تقارير صحفية باردة.

A group of people looking at paintings on a wall

AI-generated content may be incorrect.

لوحات فرناندو بوتيرو معروضة في متحف بوتيرو في بوغوتا، كولومبيا

في ميديلين الكولومبية محل ولادته ونشأته الأولى، حين فَجّر العنف أحد تماثيله «تمثال حمامة السلام» القابع في وسط الميدان المسمى باسمه، رفض بوتيرو أن يُزيله أو يُرمّم جراحه، بل أصر على إبقائه شاهدًا على القسوة، وأقام بجانبه نسخة جديدة من التمثال ذاته، كرمز للأمل. لقد جسّد بذلك موقفًا فلسفيًا عميقًا: أن الفن ليس هروبًا من الواقع، بل مقاومة لنسيان الألم والجراح. التمثال الممزق وقرينه الجديد يخلقان ثنائية بصرية تُلخص جوهر بيان بوتيرو الفني: الخراب يمكن له أن يجاور الأمل ويغذّيه.

يُدرك بوتيرو أن وظيفة الفن تتجاوز اللذة الجمالية إلى وظيفة حفظ مشهد الضحية كذاكرة. وهنا يتقاطع مع قول والتر بنيامين: «إن كل وثيقة حضارية هي في الآن نفسه وثيقة بربرية»، إذ يفضح بوتيرو عبر تضخيمه جسد الضحية كيف أن التاريخ لا يُكتب فقط بالبطولات، بل بجثث الضحايا أيضًا. لقد جعل من لوحاته ومنحوتاته أرشيفًا بصريًا لويلات جسد الضحية، حيث لا ينجو العنف من التوثيق، ولا تُمحى الإنسانية من السرد.

تمثال حمامة السلام، فرناندو بوتيرو

هكذا يتحول أسلوب بوتيرو من «جمالية التضخيم» إلى «سياسة التضخيم»: تكبير الجسد ليكون مرئيًا، تكبير جراح الضحية كي لا تُمحى، تكبير الكرامة الإنسانية كي تبقى في قلب الفن. وهو بذلك يرسم لنا صورة عن الفن كمقابل للمسؤولية الأخلاقية، لا مجرد متعة بصرية، وبلاغة كلاسيكية.

 

الحياة بين التواضع والكونية

ولد فرناندو بوتيرو في ميديلين عام 1932 في أسرة متواضعة، بعيدًا عن مراكز الفن العالمية. لكن مساره لم يكن حبيس الهامش، بل ارتقى بأسلوبه الخاص ليصبح لغة عالمية معروفة ومقترنه باسمه. هذا الانتقال من المحلي إلى الكوني يُظهر كيف يمكن لفنانٍ من الأطراف أن يفرض حضورًا في المركز، لا عبر التقليد بل عبر ابتكار بصمة جمالية فريدة. لقد بقي في العمق فنانًا ينحاز للبسطاء، وهو ما انعكس في موضوعاته التي كثيرًا ما التقطت تفاصيل الحياة اليومية، الأسواق، العازفين الشعبيين، والناس المقهورين.

ما يميز بوتيرو ليس فقط أسلوبه في التضخيم، بل إنسانيته التي أبت أن تُفصل عن فنه. في أكثر من شهادة، كان يردد أن الفنان لا يملك ترف الانفصال عن آلام شعبه. لذا، سواء في رسمه للنساء الممتلئات والرجال السمينين، أو في معالجته لمجازر ومآسي سياسية، ظل الدافع الأساسي هو إبراز كرامة الإنسان. هنا يمكن استحضار قول بول ريكور: «الذاكرة مقاومة للنسيان»؛ فبوتيرو لم يكتف بتجسيد الذاكرة، بل حوّلها إلى ممارسة أخلاقية تُعيد الكرامة للضحايا.

ترك بوتيرو إرثًا يندر مثيله: أسلوبًا بصريًا يُعرف من النظرة الأولى، وموقفًا إنسانيًا ظل حاضرًا حتى وفاته في ١٥ سبتمبر ٢٠٢٣. أعماله لم تكن «زينة متحفية» فحسب، بل مواقف بصرية في مواجهة العنف والسلطة والهيمنة. لذلك يمكن القول إن إرثه يقوم على مستويين دلاليين: «إبداعي بصري جمالي» منح الفن الحديث رؤية جديدة لجمالية «التضخيم» المضاد للتصغير والاختزال. و«أخلاقي إنساني» أثبت أن الفن ليس مجرد تجريب شكلي، بل صوت للضحايا وحارس للذاكرة.

 

بوتيرو بعد بوتيرو

رحيل فيرناندو بوتيرو لم يُنهِ حضوره، بل ثبّت مكانته كأيقونة عالمية. فالفنانون والنقاد يستحضرونه لا باعتباره فنان «الأجساد السمينة»، بل باعتباره مبدعًا منح الجسد البشري قدرة على مقاومة التشييء والامّحاء. وهنا يمكن أن نجد صدى لفكرة ميشيل فوكو العبقرية: «الجسد هو ساحة الصراع الأولى للسلطة»، إذ جاء بوتيرو ليحوّل الجسد من موضوع للسيطرة إلى مساحة لاسترداد الكرامة، ومن خلال هذا التعبير الفني جعل الجسد ملأ العين، والفراغ في اللوحة.

إن الإرث الذي تركه بوتيرو ليس مجرد أسلوب فني مميّز وغريب، بل دعوة مفتوحة لرؤية الفن كمساحة للعدالة الرمزية، وحياة الفنان كتجسيد لمسؤولية الفن أمام الضحية، سواء كانت هذه الضحية في صورة سجين مُهان أو مصارع ثيران وظيفته القتل من أجل الامتاع. إن بوتيرو مثال نادر لفنانٍ بقي وفياً للإنسانية خلف الجمال البصري، وللذاكرة خلف الصورة.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه