“خلايا جلد بشرية” د. برام فولكوف، د.كيس جالينك، د.رينهارد ويندوفر، د.نيكول شوارتز بالتعاون مع المعهد الهولندي للسرطان
عبدالرحمن عواد
في مطلع القرن التاسع عشر، كتب الشاعر والرسام ويليام بليك[1] William Blake قصيدة بعنوان "نذير البراءة"[2] Auguries of Innocence[3] يبدأ فيها الأسطر الأربعة الأولى، بقوله:
" لرؤية العالم في حبة رمل
وجنة في زهرة برية،
امسك اللانهاية في راحة يدك
والخلود في ساعة..."
عند تأمل كلمات ويليام بليك، نجد أن الزهرة وحبة الرمل تتجاوزان كونهما مجرد عناصر من الطبيعة لتصبحا رموزًا عميقة ومليئة بالمعاني. بليك يرى في الزهرة البرية أكثر من مجرد تجسيد لجمال طبيعي؛ إنها تجسيد للخلود والقدرة على رؤية الجنة في أبسط الأمور. هذه الزهرة، بكل تفاصيلها الرقيقة وألوانها المتألقة، تعكس جوهر الأبدية وتفتح أمامنا نوافذ إلى عالم الروح حيث يتلاقى الجمال مع السعادة في تناغمٍ خفي.
أما حبة الرمل، التي قد تبدو صغيرة وبسيطة للعين البشرية، فهي في نظر بليك بؤرة لامتناهية من الإمكانيات. في كل حبة رمل، هناك عالم كامل، حيث يمكن للروح أن تجد عمقًا غير محدود، متصلًا بكل شيء حوله. بليك يدعونا لتأمل هذا الجمال الخفي، ليشعر الإنسان بالقدرة على رؤية اللانهاية في تلك الحبة الصغيرة. الجمال الخفي والمستور يظهر في قدرة "البراءة" على رؤية أشياء عظيمة في تفاصيل صغيرة وغير ملحوظة. هناك مشاهد يومية لا يلتفت إليها الناس إلا من يمتلكون هذه "البراءة"، التي تمكنهم من رؤية العظمة في الأمور الصغيرة. البراءة هي أن تنظر إلى زهرة برية أو حبة رمل وترى فيها جنة من السعادة بينما يتجاوزها الآخرون.
هي دعوةٌ إلى تجاوز المألوف والاعتراف بالاستثنائي داخل المعتاد، لفت انتباه إلى أن العالم بأسره يمكن أن يتجسد في أصغر العناصر، دافعاً إلى تأمل ملء الوجود في أبسط أشكاله. الجمال، كما يشير بليك، يمكن أن يُرى في تفاصيل الحياة اليومية، مما يضفي للتجربة الإنسانية إدراك عميق للوجود. من خلال التقدير للجمال في الطبيعة، نفتح أبواباً جديدة للتفكير والفهم. تأملاً بالقوة اللامحدودة للروح البشرية على فهم اللانهائي والأبدي ضمن القيود المحدودة، وإبرازاً للترابط العميق بين جميع الأشياء. والإمكانيات اللامتناهية للدهشة والاكتشاف التي تكمن في مدارك الوعي البشري. بليك، من خلال تأملاته، يفتح لنا أبوابًا جديدة لنتواصل مع جمال أعمق وأكثر شمولية، حتى ندرك أن كل عنصر من عناصر الطبيعة يحمل في طياته لمحة من الأبدية والخلود.
كيف لبرغوثٍ صغير أن يحدث ثورة في الفن؟
وُلِد روبرت هوك في إنجلترا عام 1635م. بعد وفاة والده وهو في الثالثة عشر من عمره، انتقل روبرت الى لندن لمتابعة صقل موهبته الفنية للرسم عن طريق الالتحاق ببرنامج تدريب مهني في استديو السير بيتر ليلي[4], رسام البورتريه الأبرز في ذلك الوقت. أدرك روبرت أن بإمكانه تعليم نفسه الرسم وتوفير تكلفة التدريب، فغادر الاستديو وبدلاً من ذلك واصل تعليمه في مدرسة وستمنستر ثم جامعة أكسفورد في دراسة الميكانيكا.
في أوائل ستينيات القرن السادس عشر، بدأ افتتان هوك بالعالم المجهري عندما بدأ في استخدام المجاهر البدائية لفحص العينات المختلفة. سرعان ما أدرك إمكانيات هذه الأجهزة للبحث العلمي وبدأ في تنقيحها وتحسينها إلى أن طور مجهرًا مركبًا بسيطًا بعدسة واحدة يمكن تعديلها بسهولة مما يسمح بتكبير أعلى لحجم العينة الأصلي وبصورة أوضح. كان هوك أول شخص يراقب ويصف التركيب المجهري للعديد من الأشياء، بما في ذلك الخلايا النباتية وعيون الحشرات وحتى سطح القمر. كان مجهر هوك بمثابة تحسن كبير وقفزة في التصميم مقارنة مع المجاهر السابقة، والتي كانت في الغالب كبيرة وغير عملية وصعبة الاستخدام
رسم توضيحي لمجهر روبرت هوك في كتابه Micrographia
المصدر: جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعيةThe Royal Society.
سمح له عمله الرائد في تطوير وصقل المجاهر بمراقبة وتوثيق الهياكل المجهرية التي لم تكن معروفة من قبل، والتي صورها بعد ذلك في رسومات توضيحية علمية دقيقة وجميلة، جمعها في كتابه <الفحص المجهري> Micrographia[5] والذي لاقى نجاحًا فوريًا عند نشره. كان الكتاب أول من وثق العالم المجهري بمثل هذه التفاصيل، وسرعان ما أصبح أمرًا ضروريًا للعلماء. كانت الرسوم التوضيحية في الكتاب جديرة بالملاحظة بشكل خاص، لأنها التقطت التفاصيل المعقدة والقوام للعينات بطرق لم يسبق رؤيتها من قبل.
غلاف كتاب Micrographia لروبرت هوك
المصدر: المكتبة البريطانية The British Library
أحد أشهر الرسوم التوضيحية في الكتاب هو تصوير هوك لبرغوث. تُظهر الصورة الحشرة الصغيرة بتفاصيل مذهلة، مع رؤية كل شعرة ورجل وميزة بوضوح. بلغة وصفية، يعزز هوك وضوح ما رآه ورسمه ليصف جسد البرغوث "إن جمالها يتضح من خلال المجهر مزين بالكامل ببدلة درع مصقولة بشكل جميل، مربوطة بدقة ومحفوفة بالعديد من المسامير المدببة التي تشبه تقريبًا ريش النيص[6] ".
رسم توضيحي لبرغوث من رسم روبرت هوك في كتابه Micrographia
المصدر: جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية The Royal Society
لم يكن روبرت هوك عالمًا فحسب، بل كان أيضًا فنانًا بارعًا يتمتع بموهبة فطرية وممارسة فنية متواصلة، وتظهر مهاراته الفنية جلية في رسوماته التوضيحية. ورغم انغماسه في العلوم، لم يفقد اهتمامه بالفن أبدًا. كان هوك على اتصال دائم مع معاصريه من الرسامين ومتفاعلًا مع صانعي الزخارف منهم ومذكراته مليئة بالإشارات إلى النحاتين. في الواقع، لولا تفانيه في الفن، لم يكن هوك قادرًا على تسجيل ملاحظاته كما فعل في كتابه. من خلال ممارسته الفنية وتأثير الفن الباروكي[7],الشكل الأكثر شيوعًا للفن خلال حياته، تمكن هوك من إنجاز كتابه بنجاح، والذي استخدم من خلالها الرسوم التوضيحية الوصفية لتصوير ملاحظاته المجهرية. نقارن أدناه الصور التي التقطها باستخدام مجهره الخاص مع الصور الحديثة للبراغيث الملتقطة باستخدام المجهر الإلكتروني الماسح [8]SEM. لاحظ مقدار التفاصيل التي تمكن روبرت هوك من رؤيتها باستخدام مجهره وفنه.
صورة لبرغوث باستخدام المجهر الإلكتروني
ومن الأمثلة البارزة الأخرى رسم هوك لعين ذبابة (Grey drone-fly). الصورة دقيقة علميًا وجميلة من الناحية الجمالية، حيث تُظهر الصورة البنية المعقدة للعين، مع آلاف الجوانب السداسية الصغيرة المرتبة في شبكة مثالية. كان الرسم التوضيحي مفصلاً للغاية لدرجة أنه ساعد العلماء على فهم بنية ووظيفة عيون الحشرات لأول مرة.
رسم توضيحي لعين ذبابة (Grey drone-fly) من رسم روبرت هوك في كتابه Micrographia
المصدر: جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية The Royal Society
قدمت رسومات روبرت هوك فهمًا جديدًا للفنانين حول التفاصيل المعقدة للعالم الطبيعي، مما ألهمهم لدمج عناصر الدقة العلمية في أعمالهم الخاصة. بدأ الفنانون في اعتماد نهج أكثر دقة وتفصيلًا في تصوير المواضيع، سعيًا لالتقاط التفاصيل الدقيقة للنسيج والشكل والهيكل المراقبة من خلال عدسة الاستفسار العلمي. لقد حفز استكشاف هوك للبرغوث تحولًا نحو أسلوب أكثر تجريبية وواقعية في الفن، مما يمثل لحظةً فارقة في تلاقي العلم والجمال خلال عصر النهضة.
إن مساهماته في مجال الفن المجهري رائدة وتواصل إلهام الفنانين والتأثير عليهم حتى يومنا هذا. أظهرت قدرته على الجمع بين الفن والعلم قوة وجمال هذين المجالين اللذين يعملان معًا. فاهتمامه الدقيق بالتفاصيل وقدرته على التقاط جمال وتعقيد العالم الطبيعي في أعماله الفنية هي من الصفات التي لا يزال الفنانون يحترمونها ويقلدونها حتى يومنا هذا.
أحد الفنانين المعاصرين الذين تأثروا بعمل هوك هو الفنان والمصمم البريطاني روب كيسلير. يجمع عمله بين تقنيات التصوير العلمي والتعبير الفني، مما يخلق صورًا جميلة ومعقدة للعينات المجهرية الدقيقة علميًا والمذهلة بصريًا. في الأسفل مختارات من أعماله
المصدر: https://www.robkesseler.co.uk
هل يمكن لأكثر الأمراض فتكاً أن تمتلك جمالاً؟
توصلت الدكتورة كريستين دوناهي لأول مرة إلى إجابة هذا السؤال أثناء فحص عينة من سرطان الخصية. ذكّرتها الأنماط والألوان بالفن المعاصر، وبدت مناسبة تمامًا لجدار المتحف كما كانت مناسبة للمختبر. تعاونت الدكتورة مع المصور الطبي نورمان باركر لإنشاء كتاب الجمال الخفي: استكشاف جماليات العلوم الطبية، والذي كان من أهدافه استكشاف التناقض بين الجوانب التي تبدو جميلة للأمراض وحقيقة أنها تعيث فسادًا في أجسادنا. يضم الكتاب أكثر من ستين صورة مذهلة، بما في ذلك صور التشريح الطبيعي والأمراض والأبحاث الطبية المتطورة. من خلال مقارنة جمال هذه الصور بواقع المرض، يهدف المشروع إلى خلق فهم وتقدير أعمق للجسم البشري ومجال الطب.
غلاف كتاب الجمال الخفي: استكشاف جماليات العلوم الطبية، نورمان باركر وكريستين دوناهي
المصدر: https://www.hiddenbeautyinmedicine.com
كذلك أقامت شركة Cell Press، وهي شركة رائدة في مجال نشر الأبحاث البيولوجية والطبية معرضاً متنقلاً بعنوان <الفن تحت المجهر>، والذي يركز على جمال العلوم من خلال التفسيرات الفنية للصور العلمية، بالتعاون مع قسم النظام الصحي بجامعة ميشيغان لعرض مختارات من المعرض المتنقل من خلال فريق من الفنانين الذين يحاكون صور مجهرية مختارة من الجامعة.
نارٌ في عينيها Fire in Her Eyes
Rebecca Bernardos, University of Michigan
Art Quilt by Judy Busby, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) قسم من شبكية عين الزرد، تُعرف أيضا باسم الدانيو المخطط Zebrafish .(يسار) رسم للفنان باستخدام الترتر المخيط والأقمشة الحمراء والورق المصنوع يدويًا.
الشجاعة والمجد Guts and Glory
Lymari Lopez-Diaz, University of Michigan
Art Quilt by Carole Nicholas, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مقطع عرضي لنتوء في بطانة الأمعاء. (يسار) يقوم الفنان بتجسيد الصورة على القماش.
جلد فان جوخ Van Gogh's Skin
Mark Hutchin, University of Michigan
Art Quilt by Carole Nicholas, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مقطع عرضي من جلد فأر مصاب بسرطان الخلايا القاعدية. (يسار) مستوحى من لوحة <Starry Night>، يجسد الفنان الصورة بالقماش والغرز لمحاكاة ضربات فرشاة فان جوخ.
البروش الشَّمسيّ Sunburst
Maria Morrell, University of Michigan
Art Quilt by Bunnie Jordan, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مجموعة كروية من الخلايا الجذعية العصبية. (يسار) يحاكي الفنان الصورة باستخدام زخارف مصهورة ومصنوعة آليا تتضمن الخيوط والأورجانزا والخرز.
معقدة بوضوح Visibly Complex
Tom Glaser, University of Michigan
Art Quilt by Christine Adams, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) طبقات أنسجة شبكية عين فأر. (يسار) قامت الفنانة برسم الصورة باستخدام خياطة اللحف.
بحيرة لوخ نس Loch Ness
Åsa Kolterud, University of Michigan
Art Quilt by Carole Nicholas, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) الطي الأولي للنسيج الظِهاري للأمعاء. (يسار) مستوحاة من الألوان الزاهية والطيات المتموجة، يصور الفنان الصورة على أنها قصة وحش بحيرة لوخ نيس ، نيسيNessie
طَرِيّ/Mellow
Matthew Velkey, University of Michigan
Art Quilt by Sandi Goldman, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مقطع عرضي من نبات القنب الصناعي. (يسار) يجسد الفنان الصورة في القماش والمستوحى من الألوان الناعمة والدوائر.
النجم الجذعي Stem Star
Shannon Davis, University of Michigan
Art Quilt by Lisa Ellis, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مقطع عرضي للغدة النخامية والأنبوب العصبي محول بشكل مصطنع إلى نمط نجمي. (يسار) قام الفنان برسم الصورة باستخدام مزيج من التلبيد بالإبرة ومجموعة متنوعة من الخرز والخيوط.
الغيلان Goblins
Åsa Kolterud, University of Michigan
Art Quilt by Paula Golden, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) بنية القولون. (يسار) جسد الفنان الصورة باستخدام قماش مركب.
الشوك Thistle
By Maria Morrell, University of Michigan
Art Quilt by Barbara Hollinger, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) تُظهر هذه الصورة المجهرية مجموعة كروية من الخلايا الجذعية العصبية. (يسار) رسم الفنان الصورة على خلفية مصبوغة يدويًا مغطاة بطبقات قزحية من القماش الشفاف.
قوس قزح المُعدي Gastric Rainbow
Jochen Lennerz, Washington University School of Medicine and Jason Mills, University of Washington at St. Louis
Art Quilt by Carole Nicholas, Judy Busby, Christine Adams, Bunnie Jordan, Paula Golden, Sandi Goldman, Barbara Hollinger, Mary Lois Davis, and Annabel Ebersole, Fiber Artists@Loose Ends
الصورة: (يمين) مقطع عرضي لمعدة فأر. (يسار) تم تجميع خليط الألحفة الموضحة هنا من خلال تعاون تسعة فنانين، قام كل منهم برسم قسم بحجم 10بوصات بشكل مستقل.
العَالَم الصغير للتصوير المجهري
أما مسابقة <نيكون سمول وورلد>، الحدث السنوي المرموق والذي يقام منذ عام 1975م، فتعتبر شهادة على التوازن السلس بين العلم والفن في مجال التصوير الدقيق بالمجهر. كل عام، تجذب هذه المسابقة الباحثين والعلماء والهواة من جميع أنحاء العالم لتقديم أجمل صورهم، التي تم التقاطها بدقة من خلال عدسة المجهر. تكشف هذه التقديمات عن التفاصيل المدهشة لعالم الأشياء الدقيقة، وتكشف عن عالم من الجمال والدهشة الذي غالبًا ما يبقى مخفيًا عن العين المجردة. من هندسة الخلايا البيولوجية الدقيقة إلى التناظر البلوري، تقدم كل مشاركة في مسابقة نيكون سمول وورلد نظرة على التنوع والتعقيد المذهلين للحياة نفسها. حيث تعزز التقدير العميق لعجائب الطبيعة المخفية والتفاني اللامتناهي لأولئك الذين يكشفون عنها. من خلال عدسة التصوير الدقيق، لا تحتفي مسابقة نيكون سمول وورلد فقط بفن استكشاف العلم، بل تؤكد أيضًا على الروابط العميقة بين العلم والفن، واهتمامنا المشترك بأسرار الوجود.
المشاركات الفائزة من 2012 إلى 2023
المصدر:
https://www.nikonsmallworld.com
تأسر الصور الفائزة المشاهدين بتفاصيلها الرائعة وألوانها الزاهية المثيرة للدهشة والفضول حول الجمال غير المرئي الذي يحيط بنا في العوالم الخفية للطبيعة. وعلاوة على جاذبية المشاركات الفائزة الجمالية، تحمل العديد منها أيضًا أهمية علمية عميقة، حيث توفر رؤى قيمة في أساليب عمل العالم الطبيعي. سواء كانت تكشف عن الآليات المعقدة للعمليات الخلوية أو تعرض التفاعل الدقيق بين الضوء والمادة، تساهم هذه الصور في فهمنا لعلم الأحياء والكيمياء والفيزياء.
أحد المشاركات الفائزة في المسابقة كانت للعالم جون آي. كويفولا[9] .فازت صورته لشوائب معدن الجيوثايت وأكسيد الحديد في العقيق البرازيلي باستخدام تنقية <نقل الضوء عن طريق إضاءة الألياف الضوئية المنعكسة> في المركز الأول من المسابقة لنسخة سنة 1984م.
تظهر صورة الشوائب في الأسفل وكأنها لوحة فنية مليئة بألوان زاهية مذهلة والتي تلتقط لحظات عابرة من الضوء واللون وكأنها منظر طبيعي غامض. تثير الصورة المليئة بالعناصر المتناقضة إحساساً بالمناظر الطبيعية كما لو أن الظل الذي تلقيه السحب يقع جنباً إلى جنب مع تألق السماء. ثم تترتب الألوان بمهارة في انتقالات لطيفة تعكس التفاعل بين الضوء والظل، مما يؤدي إلى تباين آسر يضيف عمقاً وبعداً إلى المشهد.
https://www.nikonsmallworld.com
عدسة المجهر أم عين الفنَّان؟
قدمت رسومات هوك ثروة من المعلومات حول العالم المجهري الذي لم يكن معروفًا من قبل. ساعد عمله في إنشاء مجال الفحص المجهري ووضع الأساس للاكتشافات العلمية المستقبلية. اليوم، يتم التعرف على <الفحص المجهري> باعتبارها تحفة فنية من الرسم التوضيحي العلمي وعمل تاريخي في تاريخ العلوم والفنون، يستمر في إلهام العلماء والفنانين على حد سواء، مع الرسوم التوضيحية المذهلة بمثابة شهادة على قوة وجمال العالم المجهري. إن أهمية الكتاب في تاريخ العلم والفن تجعله قطعة أثرية قيمة ورائعة من القرن السابع عشر وما بعده.
وهذا يدعو إلى التفكير في طبيعة الإدراك والجمال، وجوهر الوجود نفسه. من خلال غمر أنفسنا في المناظر المعقدة التي تكشفها الصور المجهرية، هل يمكن أن نصبح أكثر وعياً بالجمال غير المرئي من حولنا؟ أم نضيف بعداً مجرداً آخر؟ هل تمثل كل صورة، بأنماطها المعقدة وألوانها الزاهية ونسيجها المذهل، شهادة على الفن الرفيع الذي يتجلى في خيوط الكون؟ هل نحن شاهدين في هذه العوالم الصغيرة على رقصة متناغمة بين الشكل والوظيفة حيث يتم الكشف عن جمال تصميم الطبيعة في أصغر المقاييس؟
تُذكرني هذه الأسئلة بفيلم لهيئة الإذاعة البريطانية BBC عام 1983م بعنوان < ريتشارد فاينمان[10]: متعة التخيل>، روى الفيزيائي النظري حواراً خاضه مع صديقه الفنان الذي أتاه مرة وبيده زهرة، قائلاً: انظر كم هي جميلة هذه الزهرة
وافقه فاينمان الرأي
ويُكمل الفنان: أنا كفنان أستطيع أن أرى كم هي الزهرة جميلة، لكنك كعالم تقوم بتفكيكها وتحليلها فتصبح شيئا مملًا.
فعلق فاينمان على كلام صديقه:
"إن الجمال الذي يراه يتشارك برؤيته الآخرون بما فيهم أنا. وعلى الرغم من أن الحس الجمالي لدى أقل مما لديه، إلا أنني أستطيع أن أقدر جمال الزهرة. وفي الوقت نفسه، أرى أكثر مما يرى. يمكنني أن أتخيل الخلايا في الداخل وإجراءاتها المعقدة، والتي لها أيضا جمال. وأعني أن الجمال ليس فقط في بعد السنتيمتر؛ هناك جمال في الأحجام الأصغر والهياكل الداخلية أيضًا ... "
وأرفق حديثه بسؤال وتعجب:
"هل للأبعاد الأصغر أيضًا هذه الأهمية الجمالية؟ لماذا هي جمالية؟ يمكنك إضافة جميع أنواع الأسئلة المثيرة للاهتمام حول التشويق والغموض والرهبة التي تضفيها المعرفة العلمية للزهور. لا أرى كيف لذلك أن ينتقص من الجمال".
قال الفنان فان غوخ ذات مرة: "إذا كنت تحب الطبيعة حقاً، ستجد الجمال في كل مكان". تعكس هذه المقولة منظورًا فلسفيًا عميقًا يتجاوز حدود الجمال الظاهر ليصل إلى جوهر العلاقة بين الإنسان والعالم. فمن منظور "الجوهرية الجمالية"، يُعد الجمال حالة من الوعي والارتباط الروحي بين الإنسان والطبيعة. يؤكد إيمانويل كانت في "نقد الحكم" أن الجمال يكمن في طريقة إدراك الأشياء وليس في الأشياء نفسها، وهو ما يدعونا إليه فان جوخ حيث يشدد على أن الحب الصادق للطبيعة يكشف الجمال في أدق تفاصيلها. عند النظر في العالم المجهري، نجد تأكيدًا قويًا على هذه الفلسفة. كان العلماء في أوائل استخداماتهم للمجهر يفحصون التفاصيل الدقيقة للعالم من حولهم، مما دفعهم إلى اكتشاف أن هناك عوالم كاملة من الجمال مختبئة في تفاصيل صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، مما يعزز فكرة أن الجمال يمكن أن يكون في كل مكان إذا ما نظرنا بعمق كافٍ، كما أشار الشاعر الوجودي ويليام بليك عند تعريفه للبراءة.
المجهر هو أداة تمكننا من رؤية هذا الجمال المخفي في تراكيب النباتات وعيون الحشرات وحتى في أبسط الكائنات الحية، مؤكدًا أن التقدير الجمالي ليس محدودًا بالأشياء المرئية للعامة فقط، بل يمتد ليشمل الأبعاد المجهرية التي تكشف عنها التقنيات العلمية الحديثة. هذا الإدراك يعزز فهمنا للطبيعة، ليس فقط ككائنات مرئية، ولكن كمجموعة من الأنظمة المتكاملة التي تتجلى في كل مستوى من مستويات الوجود. يمكن أن نرى هذا الجمال في الخلايا والأنسجة والتركيبات الميكروسكوبية، حيث تكشف عن تعقيد وبراعة تصميم الطبيعة. في النهاية، الجمال ليس مجرد مفهوم سطحي، بل هو عمق يتطلب الفهم والإدراك على مستويات متعددة. سواءً كان ذلك من خلال عدسة المجهر أو من خلال عين الفنان، الجمال في الطبيعة يعكس تعقيد وعظمة الكون، ويدعونا للتأمل والتقدير لكل تفصيل مهما كان صغيراً.
الحاشية:
[1] ويليام بليك (28 نوفمبر 1757 - 12 أغسطس 1827) رسام وشاعر إنجليزي. لم يتم التعرف على بليك إلى حد كبير خلال حياته، ويعتبر الآن شخصية بارزة في تاريخ الشعر والفنون البصرية في العصر الرومانسي. لقد رأى الفنون في جميع أشكالها على أنها تقدم رؤى حول العالم الميتافيزيقي وكانت أهدافه الأوسع نطاقًا لاهوتيًا وفلسفيًا.
[2] "نذير البراءة" (Auguries of Innocence) هي قصيدة كتبها ويليام بليك في دفتر ملاحظات له يُعرف الآن باسم مخطوطة بيكرينغ (The Pickering Manuscript). يعتقد أنه كتبها في مطلع القرن التاسع عشر، لكن لم تنشر حتى عام 1863. تتكون القصيدة من 132 سطراً.
[3] أوغوري (Augury) هي ممارسة من الديانة الرومانية القديمة لتفسير البشائر(omens) من سلوك الطيور. عندما يفسر الفرد هذه العلامات، يلقب باسم أوغور (Augur) ويشار إلى فعله بـ "taking the auspices". تعني كلمة auspices، باللاتينية (auspiciu)، أي "النظر إلى الطيور"، وتعني كلمة "auspex" اللاتينية، وهي كلمة أخرى لـ "augur”، "الشخص الذي ينظر إلى الطيور". قد يكون معنى الكلمة بشير أو نذير لكنها تستخدم في سياق شؤم لذلك تم اختيار "نذير". لذلك تم اختيار "نذير البراءة" لـ “Auguries of Innocence"
[4] السير بيتر ليلي (14 سبتمبر 1618-7 ديسمبر 1680) رسام من أصل هولندي قضى معظم حياته المهنية في إنجلترا، حيث أصبح رسام البورتريه المهيمن في البلاط. أصبح من الرعايا البريطانيين المتجنسين وحصل على لقب "السير"عام 1679.
[5] عنوان الكتاب بالكامل: الفحص المجهري أو بعض الأوصاف الفسيولوجية للأجسام الدقيقة المصنوعة بواسطة العدسات المكبرة، مع الملاحظات والاستفسارات حول ذلك.
Micrographia, or some physiological descriptions of minute bodies made by magnifying glasses, with observations and inquiries thereupon.
[6] النيص Porcupine ثالث أكبر نوع قوارض. يتميز بأنه مغطى بأشواك حادة يستخدمها للدفاع عن نفسه من الحيوانات المفترسة. موطنه الرئيسي يقع في الأمريكيتين، بالإضافة إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا.
[7] الفن الباروكي أو الباروك (Baroque) هو مصطلح يطلق على أشكال كثيرة من الفن الذي ساد روما في عام 1600 م وانتشر منها إلى معظم أنحاء أوروبا.
[8] مجهر إلكتروني ماسح (Scanning Electron Microscope) يقوم بقذف ومسح تيار مركز من الإلكترونات فوق سطح عينة لإنشاء صورة. تتفاعل الإلكترونات الموجودة في الحزمة مع العينة، وبالتالي تنتج إشارات مختلفة يمكن استخدامها للحصول على معلومات حول تضاريس سطح العينة وتكوينها.
[9] جون آي. كويفولا (1941م – 2018م) خبير في عِلم المجوهرات والميكروسكوب ويشتهر بعمله الرائد في بحوث الشوائب في الأحجار الكريمة. قدم حياته المهنية لدراسة الشوائب المجهرية الموجودة داخل الأحجار الكريمة، حيث نشر العديد من الكتب والمقالات حول علم المجوهرات والميكروسكوب، مما جعله مرجعية محترمة في مجاله. كانت إسهاماته في فهم الشوائب في الأحجار الكريمة لها تأثير كبير على البحث في علم المجوهرات وتجارة الأحجار الكريمة في جميع أنحاء العالم.
[10] ريتشارد فاينمان (11 مايو 1918 - 15 فبراير 1988) فيزيائي نظري أمريكي حائز على جائزة نوبل. كان عمله الرئيسي في فيزياء الكم وفيزياء الجسيمات، حيث اشتهر بشكل خاص بمخطط فاينمان (Feynman diagram)، وهي طريقة تصوير لعمليات الجسيمات بيانياً.
______________________________________
المراجع:
Barker, N. and Iacobuzio-Donahue, C.A. (2018) Hidden beauty: Exploring the aesthetics of medical science. Atglen: Schiffer Publishing.
Brian Ford’s wonderful book, Images of Science: A History of Scientific Illustration Gest, Howard, ‘The Remarkable Vision of Robert Hooke (1635–1703): First Observer of the Microbial World, Perspectives in Biology and Medicine
Britannica, T. Editors of Encyclopaedia (2023, February 27). Robert Hooke. Encyclopedia Britannica. https://www.britannica.com/biography/Robert-Hooke
Hooke, R. (1665). Micrographia or some physiological descriptions of minute bodies made by magnifying glasses with observations and inquiries thereupon fellow of the royal society. Printed by Jo. Martyn and Ja. Allestry.
The art of microscopy. Nat Methods 18, 1267 (2021). https://doi.org/10.1038/s41592-021-01324-y
https://www.robkesseler.co.uk
https://www.microworldofgems.com