الصرخة، 1893، إدفارد مونك
هند مسعد
ما المعنى من وراء هذا الوجود؟ لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل؟ وما الذي يحدث للناس حقًا بعد الموت؟ تلك الأسئلة حول الوجود ومعناه والغرض من ورائه ظللت وجود الإنسان الحديث الذي وجد نفسه منذ الثورة الصناعية في بحث دائم وحثيث لمعنى لحياته. وتلك الأسئلة عينها هي ما تشكل جوهر الفلسفة الوجودية.
نشأت الوجودية في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا، وكان فلاسفة مثل سورين كيركجارد وجان بول سارتر من الشخصيات الرئيسية الذين كتبوا فيها. اكتسبت الوجودية شعبية بعد الحرب العالمية الثانية والتي راح ضحيتها أكثر من 80 مليون قتيل. إلا أنها وبالرغم من تأثيرها الكبير والواسع على مجالات عدة، مثل اللاهوت والأدب وعلم النفس، كان صدى الوجودية في عالم الفن التشكيلي عميق وواسع المدى.
وقد تمت دراسة أعمال ولوحات رسامين بعينهم بوصفها تشكيل لجوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان الحديث. ومثلما كان الأديب الروسي فيودور ديستويفسكي، برواياته وأعماله الاستثنائية،ممثل هام للفلسفة الوجودية في كتباته وعبر شخصياته الروائية؛ بزغ الفنان التشكيلي النرويجي إدفارد مونك [12 ديسمبر 1863 - 23 يناير 1944]، بسبب لوحة الصرخة، عام 1893، على وجه التحديد، في أواخر القرن التاسع عشر، كواحد من أبرز رسامي العصر الحديث تأثرًا بالوجودية وأزمة المعنى.
فالصرخة التي صارت بمثابة مانفيستو للأزمة الوجودية التي تغلف العصر الحديث لا تزال بعد مرور أكثر من قرن ونصف على رسمها ذات قيمة وجدوى كأنها رسمت للناس في مطلع القرن الحادي والعشرين. هذا الوجه الشبحي المرعوب الذي يصرخ أمام سماء برتقالية على جسر في مشهد ممثل بألوان حارة كأنها تسيل يبدو معاصرًا لنا تمامًا كان معاصرًا للناس في أواخر القرن التاسع عشر.
"كنت أسير على طول الطريق مع صديقين – كانت الشمس تغرب – فجأة تحولت السماء إلى اللون الأحمر الدموي – توقفت، وأنا أشعر بالإرهاق، واستندت على السياج – كان هناك دماء وألسنة من النار فوق المضيق البحري الأزرق الداكن والمدينة – سار أصدقائي، ووقفت هناك أرتجف من القلق – وأحسست بصرخة لا نهاية لها تمر عبر الطبيعة." [مونك]
صرخة ناجمة عن نوبة هلع
وصف مونك "الصرخة" بأنها تمثيل لروحه أثناء سيره على الجسر، حيث شعر فجأة بالقلق وثقل العالم. وقد عانى بالأحرى مما نعرفه الآن على أنه "نوبة هلع"، وهي ما صوره في اللوحة. ونوبة الهله تلك في حد ذاته كانت ناجمة عن حالة نفسية سيئة اختبرها مونك في تلك اللحظة. فقد تم إدخال إحدى شقيقاته إلى مصحة عقلية بسبب مشاكلها الصحية العقلية. كان المرض العقلي وراثيًا في العائلة. بالإضافة إلى ذلك، عانى مونك من فقدان والدته وهو في الخامسة من عمره، وفي الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، فقد إحدى شقيقاته. كلاهما مات بسبب مرض السل.
وعلى حد ما جاء في تصريح آخر له، تناهى إلى سمعه صوت نسوة يصرخن من مصحة عقلية قريبة من الجسر وتخيل وضع أخته في مصحتها وشعر أنها على الأرجح تعاني مثل أولئك النسوة فشعر برعب شديد عندما نظر حوله ووجد غروب الشمس لونه أقرب للون الدماء والجسر معلق في الهواء تمامًا كقلبه الفارغ من أي معنى يستند إليه، فشعر أن الطبيعة بكل ما فيها تصرخ وتنزف وتسيل.
بورتريه مع سيجارة، 1895، إدفارد مونك
لوحة وجودية تعبر عن الجميع
يمكن رد عالمية اللوحة وشعبيتها الواسعة لقدرة مونك على التعبير عن أعقد وأثقل المشاعر الإنسانية بألوان ورسومات بسيطة. فهو لا يعتمد في فنه على التفاصيل المعقدة أو المعاني المركبة. على العكس من ذلك، ينقل مونك صدى الأزمة الوجودية في لوحته تلك، وفي معظم أعماله، بطريقة بسيطة نجحت في أن تكون صدى وتمثيل مرئي لتلك الصرخة الداخلية التي نشعر بها جميعًا.
ببساطة، تمثل الصرخة الأزمة الوجودية أفضل من بعض الكتب والمنشورات الفلسفية. وهي بالطبع شهادة على التأثير الذي يمكن أن يحدثه الفن خارج حدود صالات العرض والمتاحف. فقوة اللوحة تكمن في ضربات الفرشاة البسيطة والعميقة في آن واستحضارها تجربة عاطفية مشتركة بين معظم الناس في نفس الوقت.
الإسقاط الداخلي وممارسة التعاطف
يصف عالم النفس والفيلسوف الألماني الراحل ثيودور لبس [1851 - 1914]، الفن بوصفه وسيطًا يُمكننا، ليس فقط من التعاطف مع الآخرين، بل ممارسة التعاطف نحو أنفسنا عبر الإسقاط الداخلي لمشاعرنا على العمل الفني. يرى لبس، أن الفنان يحشذ قدرتنا على التعاطف من خلال تمكيننا من الشعور بالتناغم مع الأشياء التي يبدعها. عندما نتأمل لوحة مذهلة، نصبح منغمسين في المشاعر والقصص المخبأة داخل ضربات فرشاة الفنان. مَن يصرخ حقًا على ذاك الجسر؟ مونك وحده؟ أم الناس أجمعين؟
نفس الأمر يشير إليه الفيلسوف البولندي رومان إنجاردن. فبالرغم من أن هذه التجربة هي "التجربة العاطفية للأحداث النفسية للأشخاص المصورين في اللوحة" إلا إننا من خلال عدسة التعاطف نستكشف أنفسنا في تلك اللوحات وأولئك الأشخاص ونستدرك نفس الألم النفسي ونعرف يقينًا أننا لسنا وحدنا في تلك الأزمة الوجودية الطاحنة. هناك آخرون معنا وقد نجد عبر التكاتف الجمعي مخرجًا لنا جميعًا.
رواج "الصرخة" إذن كلوحة لدى المشاهدين ناجم ببساطة عن تجربة القلق واليأس العالمية التي يختبرها الجميع منذ عقود عدة، تتجاوز القرنين. فها هي الطبيعة الهشة للوجود الإنساني والأسئلة الوجودية التي تصيبنا جميعًا في شكل صرخة يائسة. وبشكل عام، صور مونك في مجمل لوحاته المخاوف الوجودية للبشرية؛ فتعمق في موضوعات متعلقة بالحالة الإنسانية المعذبة وكشف عن حياة مليئة بالحسرة والقلق والموت.
والسبب في ذلك أنه رأى المعاناة باعتبارها جانبًا لا مفر منه من الحياة. كذلك رأى أن النقص هو سمة أساسية للوجود الإنساني. وقد عبر عن معاناته على القماش، وأعطى شكلاً مرئيًا لاضطرابه الداخلي وقدم صوتًا ليس لألمه وحده، بل للقلق والاضطراب الوجودي الذي غمر الإنسان الحديث بشكل عام.