كانط والجميل: الموضوعة النقيضة والانزياح نحو الذاتية

single

أنطونيوس نادر


 

انشغل الفلاسفة اليونانيون القدماء بمفهوم الجمال والموضوع الإستطيقي؛ فقد ذهب أرسطو إلى  أنّ الجميل هو ما يحقق النفع أو الفائدة. أما أفلاطون، فقد رأى أنّ ثمة جمالًا مثاليًّا ترتقي إليه كل الأشياء الجميلة ولكن لا يمكن أن تصل إليه أو تحققه. وقد انتقل من جمال الأجسام المادية إلى الجمال الروحي مغلّبًا العقل على الأحاسيس والمشاعر لأنها تقود الإنسان إلى الشهوات وعدم اتباع العقل فى رؤية الأشياء؛ ولهذا جعل الفن في مرتبة ثانية بالنسبة إلى الحقيقة والخير. وذهب أرسطو في تفسير الجمال مذهبًا رياضيًّا؛ فالأشياء تبدو جميلة بسبب تناسقها ونسبة الانسجام والوحدة بين أجزائها. ومع ذلك، لم يكن من الممكن استكشاف الجمال أو بالأحرى «الجميل» بطريقة أكثر وضوحًا حتى طوّر الفيلسوف إيمانويل كانط نظريته عن الجماليات (Aesthetics) في كتابه «نقد ملكة الحكم» (Critique of Judgment).

في هذا المقال، سأناقش الموضوعة النقيضة عند كانط مركزًا على أحكام الذوق والتجربة الإستيطقية. 

 

الموضوعة النقيضة 

ثمة مثل لاتيني شائع يقول «لا خلاف على الأذواق» (De gustibus non est disputandum). يؤكّد هذا المثل أنّ فن التعبير عن الذات، والتعبير عن الأذواق، في حالتي باستخدام الكلمة المكتوبة، يتطلب عاملين أساسيين ومترابطين: لذة تدفع المرء إلى التعبير، وطريقة – أو وسيط - للتعبير. هذان العاملان يتجاذبان كفريقين يلعبان باستمرار لعبة شد الحبل. 

في «نقد ملكة الحكم»، يرصد كانط طبيعة الجمال ويتحدّث عن هذه التجربة الإنسانية، حيث يحدّد الشروط الذاتية التي تشكّل «أسس حكم الذوق». ينقسم العمل إلى أربع "لحظات"، يفسر كل منها شرطًا من شروط الذوق. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التفسيرات ليست تفسيرات صارمة (ِdefinitions) بالمعنى التحليلي، بل هي أقرب إلى الرؤى أو الخواطر.

يطرح كانط أوّلًا إشكالية نوع الحكم الذي ينتج عن قولنا، على سبيل المثال، «هذا منزل جميل». يجادل كانط بأن هذا الحكم، أي إسناد الجمال إلى المنزل – وهو موضوع مستقل عن الذهن – ليس في الواقع إسنادًا إلى موضوع (Object) بل إلى الذات (Subject). في الحقيقة، ما أقوله لا يتعلّق بالمنزل بل بشعوري باللذة التي اختبرها عن طريق ملكة الحس (Faculty of senses).

ولكنه يفسر لاحقًا أنّه عندما أسند الجمال إلى شيء ما، فإنّي أربط هذا الحكم الجمالي ليس فقط بملكة الحس، بل بكل ملكات التمثّل (Faculties of representation)، وتحديدًا بالانسجام الذي يكمن بين ملكة الفهم (Faculty of understanding) وملكة الخيال (Faculty of imagination).

يحدّد كانط شروط أو ميزات أحكام الذوق التي تتخذ بنية الأحكام الذاتية (Autonomy).

أولًا، ألّا ينطلق حكم الذوق من مصلحة (disinterestedness)، بمعنى أن يخلو من أي منفعة أو وظيفة أو غاية نظرية أو عملية؛ ففي الواقع نحن نشعر باللّذة لأنّ من طبيعة الجميل أن يثير هذه اللّذة بلا أي مصلحة أخرى.

الشرط الثاني والثالث هما الشمولية (Universality) والضرورية (Necessity)، أي القدرة على إصدار الحكم التي تعدّ نشاطًا مشتركًا بين البشر. فعلى الرغم من أن «الجمال ينبع من عين الناظر»، فإنّ كانط يقف عند مسألة مهمة ألا وهي أنّ الشروط الذاتية لملكات الحكم هي نفسها عند كل البشر. تعدّ هذه القضيّة حاسمةً في تاريخ الفلسفة لأنّ الفلاسفة القدماء كانوا يرون الجمال حقيقةً موضوعيّةً في الأشياء، مثل وزنها أو لونها أو تركيبتها الكيميائية.

نحن نتناقش ونتجادل حول أحكامنا الجمالية - وبخاصة حول الأعمال الفنية -  أنا أرى هذه اللّوحة جميلة، صديقي يراها عادية. ومع ذلك، فإنّ الشروط الذاتية لملكات الحكم تبقى كلّيّة حتى يكون الجميل مصدر جمال أو لذة كلّيّة بالنسبة إلى الآخرين أيضًا. 

يبدو أنّ ثمّة مفارقة في هذه الرؤى: لا يمكن أن تكون أحكام الذوق في الوقت عينه أحكامًا جماليّة، أي تعبيرًا عن تجربة حسية ذاتية، وأيضًا أحكامًا عقلانية تتسم بالشمولية أو الكلّيّة. بحكم عقلانيتنا، إنّنا ميالون لإصدار هذه الأحكام؛ فإنّنا من ناحية، نشعر باللذة عندما ندرك شيئًا ما. وهذه اللذة فورية، ولا تستند إلى أي تصور قبلي للشيء، ولا ترمي إلى تحقيق أي هدف. ومن  ناحية أخرى، إنّنا نعبر عن هذه اللّذة أو المتعة في شكل حكم، ونتحدث عن الجميل «كما لو كان صفةً [Beschaffenheit] للموضوع».

بعبارة أخرى، تعدّ مواقفنا ومشاعرنا وأحكامنا «مثيرة للحاسية» (Aesthetic) على وجه التحديد بسبب علاقتها المباشرة بالتجربة. ومن ثم لا يمكن لأحد أن يحكم على جمال الشيء لم يختبره. في المقابل، إنّ الأحكام العلمية، مثل المبادئ العملية، يمكن تلقيها. فمثلًا يمكن أن أعتبرك مرجعًا في حقائق الفيزياء، أو في الميكانيك. ولكن لا يمكنني أن أعدّك مرجعًا موضوعيًّا في أعمال فان جوغ أو سميونيات فيفالدي، إذا لم أتعرّض إلى أعمالهما بالتجربة. انطلاقًا من هذا التمييز، يمكن القول إنّ أحكام الجمال - بالرغم من كونها أحكامًا عقلانية كلّيّة – فهي ليس لها مبادئ أو قوانين.

 يبدو أنّ التجربة هنا تؤدي دور «البطولة» بمعنى أنّ الجميل هو من اختصاص ملكة الشعور باللذة والألم وليس من اختصاص ملكة الفهم، فهذا يمنح الشرعية المنطقية لأحكام الذوق بحيث إنّ أي شيء يغير تجربة الشيء يغير أهميته الجمالية. على حد تعبير كانط، فإنّ حكم الذوق «خالٍ من المفاهيم»، والجمال بحد ذاته ليس مفهومًا.

ومع ذلك، يبدو أن مثل هذا الاستنتاج يتعارض مع حقيقة أن حكم الذوق هو شكل من أشكال الحكم. حين أصف شيئًا بأنه جميل، أنا لا أشير  فقط إلى أنه يروق لي، بل أبيّن خصائصه. و أنا لا أفسر مشاعري، ولكن أعطيها أسبابًا، من خلال الإشارة إلى سمات موضوعها. وأي بحث عن الأسباب هو بحث كلّي. أنا في الواقع أقول إنّ الآخرين، بقدر ما هم عقلانيون، يجب أن يشعروا باللذة نفسها التي أشعر بها.

يعدّ الشرطان السابقان مدخلًا للشرط الرابع وهو أنّ الأشياء الجميلة «هادفة بلا هدف نهائي» (lawfulness without a law)؛ يدعي كانط أنه يجب فهم الجمال على أنه هادف، ولكن بدون أي غرض محدد. سيكون «الغرض المحدد» إمّا مجموعة الأغراض الخارجية (ما كان من المفترض أن يفعله الشيء أو يحققه)، أو الغرض الداخلي (ما كان من المفترض أن يكون الشيء ببساطة).

إذًا لا يتعلق الأمر بالآثار المترتبة على قراري بالإعلان، على سبيل المثال، أنهذه الفتاة «جميلة»، بل يتعلق بالشرط العام الذي يسمح لي بالتحدث عن «الجميل». بعبارة أخرى، إنّنا نحدد "الجميل" وفقًا لوجهة، لانهائيّة. وعلى هذا الأساس، تعني كلمة «نهاية» تراكم الهدفية بقدر ما يفترض هذا التراكم وجوده خارج هذه الحركة الاتّجاهية. من أجل أن يكون «الجميل» مصدر لذة كلّيّة، يجب إزاحة الجانب المحدود أي «الغاية النهائية». 

من هنا، لا ينبع الفن حقًا من محاولات الذات البشرية لتشكيل عالم أو نمذجته في تمثيل. بل بالأحرى، في الفن، يعيد العالم تأكيد وجوده قبل الإنسان (a priori)، من خلال الإنسان، ولكن بتخطيه، حتى يعيد خلق ذاته.

قد تبدو هذه الرؤية معقدة لأنّ الذوق عند كانط كما نلحظ هو ذاتي وموضوعي وفردي واجتماعي وجزئي وكلي معًا. وهذا ما يسمح لكانط أن يثبت أنّ كلتا النقيضتين صحيحة؛ فلكلّ شخص ذوق خاص، وتاليًا حكم خاص؛ لأن هذا الحكم هو نتاج ملكة الحكم التأملية الفردية. إلّا أنّ هذا الحكم في المقابل، هو حكم كلّيّ ينتمي إلى الحس المشترك بما أنّه ملكة لها مبادئ في الجهاز الإدراكي. 

وهكذا يرى كانط أن ملكة الحكم الجمالي أو ما يسميه بأحكام الذوق هي ملكة مستقلة عن العقل الخالص والعقل العملي وهي نتاج ما يسميه اللعب الحر (Free play) لملكتي الفهم والمخيلة أو الانسجام (Harmony)، وتشغل حيّزًا مهمًا في تبرير أحكامنا الجمالية.

هذا «اللعب الحر» يولد تشابهًا معينًا مع نشاط التخيل والفهم في الإدراك التجريبي (empirical cognition)، من حيث إن علاقة الملكات هي علاقة اتفاق أو تواؤم، تمامًا كما في حالة الإدراك. ولكن بدلًا من التقيد بالمفاهيم، فإنّ ملكة الخيال تنسجم بحرية مع ملكة الفهم، ونتيجة لذلك نشعر بالمتعة في الشيء بدلًا من إدراك سمة موضوعية فيه. يستخدم كانط فكرة «اللعب الحر» لإظهار كيف يمكن أن يكون الجميل مصدر حساسية كلّيّ. 

ولكن  إذا أيدنا بشكل كامل ادعاء كانط بأن اللعب الحر يتكون من علاقة بين الكليات والتي تحصل في كل عملية إدراك، فهذا يعني أنّ كل فعل من أفعال التعرف على شيء ما يجب أن ينتج عنه «متعة جمالية»، وبالتالي يجب الحكم على كل شيء بوصفه جميلًا. هذا الاستنتاج يتعارض أيضًا مع وجهة نظر كانط في الذوق باعتباره قدرة «تميّز بين». 

 

الانزياح إلى الذاتية

إذا كان الموضوع جميلًا بالفعل أو يستحق التقدير لأنّه يثير حساسية، فإن خصائصه الظاهراتية ستظهر ترتيبًا ما نقدره بمفرده ولأجله. لكن هذا الترتيب ليس سمة من سمات الشيء في حد ذاته؛ بل هو موجود في تقديرنا لخصائصه وكيفية ارتباطها بعضها ببعض. فكثير من اللّوحات في الفن التجريدي قد لا نفهمها؛ خطوط عشوائية وأشكال هندسية غريبة، ومع ذلك قد نراها جميلة ومثيرة للحساسية. هذا يجعل إدراكنا للجميل ذاتيًا للغاية؛ وذلك بالرغم من أنّ لدينا جميعًا هذه القدرة المشتركة على رؤية هذه الميزات في الموضوعات. ولعلّ سرّ الجميل لا يكمن بفرادته، بل بفرادة الذات البشرية السرّ الحقيقي الذي من أجله وجد العلم والفنّ.

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه