حاتم التليلي
كاتب وناقد مسرحي
في سنة 1890 توقّف قلب الرسام الهولندي فان جوخ بعد حادثة الرصاصة التي أصابت جسده، وفي سنة 1948 عاد جسد المسرحي الفرنسي أنطونان أرتو إلى بطن الأرض فنام ولم يعد، أمّا في سنة 1998 فقد سمع العالم كلّه بنبأ وفاة السينمائي الياباني أكيرا كوروساوا.
طبعا، لم يحدث أن التقى أحدهم بالآخر وهذا ما يعني أنّه لا مشترك إطلاقًا بينهم، بالكاد نحن سنفهم ذلك.
ولكن ماذا عن كتاب أنطونان أرتو الذي وقّعه تحت العنوان التالي: «فان جوخ: منتحر المجتمع» وماذا عن فيلم «الأحلام» للمخرج أكيرا كوروساوا الذي جاء في ثمانية فصول منها فصل تحت عنوان «غربان» حيث يدخل بطل الفيلم إلى لوحات فان جوخ ويتجوّل داخلها؟ ما الذي جعل من هذا الرسام محور اهتمام مسرحي وسينمائي إذن؟
أنطونان أرتو الرجل المنبوذ، السريالي الحالم، المسرحي الغامض، المطارد الذي تمّ رميه في المصحات النفسية حيث توغّل بجسده في حالات من الإدمان والأفيون هو نفسه من قدّم كتابًا عنيفًا، مربكًا، غاضبًا، أدان من خلاله الحضارة الغربية برمّتها، وهو نفسه الذي هاجم المسرح الغربي وحرّض عليه مرارًا مقابل الاحتفاء بثقافات الشرق وإشراقاتها الروحية الغامضة.
كوروساوا الياباني، المشرقي، ابن ثقافة النو والكابوكي، ابن «نقيع السحر» والساحر الذي ألهم العالم بأفلامه الفريدة، الرجل الذي لم يشطب من قلبه مأساة هيروشيما بعد أن تحوّل العالم إلى قرص من الجحيم ومصنعًا لإدارة الحروب ورسم التوحّش كعلامة أخيرة وقّع من خلالها البشر نهاياتهم المريعة. فان جوخ المنتحر، الرسّام الذي عجر عن بيع لوحاته ولم تزدد شهرته إلا مماته، الرسّام الذي قطع أذنه بشفرة حادّة، الرسّام الانطباعي الذي عانى من التشرّد في المصحّات النفسية، كان ابنًا للحضارة الغربية التي شاخت وترهّلت وتحوّلت إلى منجم لتدجين البشر في ثقافة الحديد والنار.
الأوّل حاول الانتحار، الثاني كذلك أيضًا، ولكن وحده فان جوخ حين قرّر الموت نجحت معه المحاولة. الأوّل كان رسّاما قبل أن يكون مسرحيّا، والثاني عرف الرسم بدوره ومارسه قبل أن يحطّ رحاله في تخوم السينما، أمّا فان جوخ فقد استطاع أن يجمع بينهما في لوحة واحدة وهو الذي سبقهما في الوجود، هي بلا شكّ لوحة «الغربان».
لقد كتب أنطونان أرتو نصّا مذهلا عن تلك اللوحة، أما كوروساوا فقد حرّرها من الجماد بعد أن أدخل بطل فيلمه «الأحلام» إلى عوالمها وحرّكها فغدت مشهدًا سينمائيًا رهيبًا.
تحوّل فان جوخ إلى مرآة تنعكس فيها وجوه الفنانين، أرتو كان يكتب عن نفسه من خلال هذا الرسام واضعًا في مناخات نصوصه سيرة الجنون والاضطراب العقلي ومجازر الطبّ التي لحقت كلّ منهما. أمّا كيروساوا فلم يكن فيلمه ذلك إلّا محض كوابيس وأحلام شاهدها في صغره فأعادها فرجة سينمائية واضعًا في تخوم مشاهده سيرة طفولته المشبعة بالرعب والحنين إلى الرسم علاوة على اضطراب الإنسانية وجنوحها نحو تدمير الجنس البشري.
من فيلم «الأحلام» لأكيرا كوروساوا
إذن، ما الذي يوجد في لوحة الغربان من جهة وضعها في مقام المسرح ومن ثمّ مقام السينما؟
ما دفع أنطونان أرتو لكتابة «فان جوخ: منتحر المجتمع» ليس مشاهدته للوحات هذا الرسام المعروضة في متحف أورانجوري الباريسي المطلّ على ساحة كونكورد فحسب، وإنما تلك المقالة التي وقّعها الدكتور فرانسوا خواكيم بير في مجلّة فنون حيث قال من خلالها بأنّ «هذا الفنان النابغة كان يعاني من اضطرابات نفسيّة ازدادت حدّة مع مرور الوقت». من الواضح أنّ المجتمع ما يزال يصرّ على ردم مبدعيه في المصحات العقلية بدلا من الاعتراف بنبوغهم وقدرتهم المدهشة على ملامسة ما هو روحي وخفيّ في قارة الإنسان المفقودة التي حجبها العقل وأنهكها الانخراط في ما هو مادّي وزائل نتيجة الاعتراضات اليومية المقيتة.
كتب أرتو من جهة الاعتراض على هذا المجتمع، ومن جهة الدفاع عن فان جوخ، ومن جهة الدفاع عن نفسه لأنّه هو الآخر عايش نفس المأساة بعد أن أتّهم بنفس التهمة. تحدث عن ذلك بالقول: «ذات يوم وجد جلّادو فان جوخ، كما وجد جلادو جيرار دو نرفال، وبودلير، وإدغار آلان بو، ولوترياميون. أولئك الذين قالوا له يومًا: والآن كفى، كفى! إلى القبر. لقد سئما نبوغك، أما اللانهاية فهي بالنسبة إلينا اللانهاية».
حين شاهد هذا المسرحي لوحة الغربان أدرك أنّ صاحبها قد شخّص مرضه النفسي أكثر من أيّ طبيب على وجه الأرض. ليست مجرّد لوحة يتمّ قذفها في المعارض بغاية إنهاكها في طقوس البيع والشراء، وليست مجرّد لوحة يتمّ وضعها في المعارض بغاية المشاهدة ثم ينتهي الأمر كما لو أنّه جحيم بارد من شأنه دفنها في تربة النسيان. هي بالكاد مساحة فرجوية لمشكلة تتخبّط فيها أمراض فان جوخ، وهي بالكاد - رغم هدوئها- أقرب إلى البيان الاحتجاجي الذي عبّر من خلاله هذا الرسام على موقفه من الإنسانية وروحها الظالمة.
تبدو الغربان المجنّحة أشبه بقطع من السحب المظلمة وهي تخيّم فوق الأرض، تبدو كما لو أنّها مجموعة من العقبان تقترب بشكل هادئ لتزدرد حقول القمح الشمسية، تبدو مثل «جراثيم سوداء» تبشّر بالاختناق وهي تتأهّب لدفن شيء مّا، تبدو على كثرتها متأهبّة لازدراد وجبات مريعة من الجثث الميّتة. أمّا فَوْقْ، فالسماء داكنة من شدّة زرقتها كما لو أنّها البحر روّعته عاصفة اللّيل. هذا ما يجعل من الأرض المكسوّة بحقول السنابل تتمايل خوفًا، وتزداد صفرتها كعلامة جذريّة على موتها المحتّم. وقف أرطو أمام هذه اللوحة ومن شدّة ذهوله كتب ما يلي: «ترى ممّ تشكو الأرض هنا، تحت أجنحة الغربان الباذخة، الباذخة من أجل فان جوخ وحده بلا ريب، ومن جانب آخر، فهي نذير شؤم لن يمسّه أبدا؟ لم يصنع أحد مثله من الأرض حتى ذلك الحين هذا الغسيل الوسخ وقد لواه النبيذ والدم المنقوع».
إنّ اختناق الأرض قادم من فوق، من أجنحة الغربان المُقَوَّسَةِ كالسيوف البدائية ومن ظلمة الغيوم التي خيّمت على الحقول وحاصرتها فإذا بها تصبح متحفا عظيما يشير إلى انطفاء الإنسانية والحياة. يشير أرتو مرّة أخرى إلى هذه اللوحة بالقول: «أسمع ضرب أجنحة الغربان على صنج رنّان فوق أرض يبدو أنّ فان جوخ لم يعد قادرًا على احتوائها»، وهذه شفرة نفسية تحيل إلى أنّ الرسام لم يوقّع لوحته هذه إلّا من جهة الرحيل، الرحيل إلى الهاوية، الرحيل إلى الموت، الرحيل بعيدًا عن هذا المجتمع الذي أصابته لوثة العدمية.
لقد رحل فان جوخ ولكنّ ظلّه مازال واقفا، إنّنا نعثر عليه هنا في جسد أرتوالقائل: «كلّنا معا، كـفان جوخ المسكين، منتحرو المجتمع!". بالكاد يمكن القول، إنّ مساحة المشكلة التي عايشها تتكرّر باستمرار مع مبدعين آخرين مثل أرتو، وما هذه المساحة إلا المنفى، المنفى الذي يجعل من المجتمع مصنعا يبدع في إقصاء المبدعين. أمّا الدكتور غاشي، طبيب فان جوخ، فهو شبيه بأطباء أرتو الذين سئمهم بشكل لا يطاق، وبشكل أعلن فيه صرخته التالية: «أنا نفسي أمضيت تسع سنوات في مصحة للأمراض العقلية ولم يكن لديّ هوس الانتحار قطّ، لكنني أعرف أن محادثة طبيب نفسيّ، صباحا، في الوقت المحدّد للزيارة، كانت تجعلني أرغب في شنق نفسي، عندما كنت أشعر بأنّ ليس في إمكاني أن أخنقه».
في ضوء هذا النسيج، تبدو غربان فان جوخ كما لو أنّها سكاكين في قبضة الأطباء، من مهمّاتها ذبح الحقول وتدمير خصوبتها بتدمير المبدعين ووضعهم في مقام الجنون ومن ثمّ التخلّص من نبوغهم، لا لشيء إلّا لأنّ هؤلاء رفضوا التواطؤ مع سياسات تخريب الإنسان وإفراغه من كلّ بعد روحي يحافظ على انتمائنا للإنسانية. أمّا تلك السحب المظلمة فمجرّد استعارة مريعة عن مؤسّسات المجتمع وقد انتفخت رحمها لتنجب تلك الطيور المشؤومة.
لكوروساوا شأن آخر مع هذه اللوحة. قال بشأن فيلمه الأخير: «حدث لي أن التقيت فان جوخ، ولكنّه للأسف لم يكن يملك سوى النزر اليسير من الوقت يكرّسه لي، هو الذي كان يريد أن يستفيد من بقية وقت لا يزال أمامه قبل أن يموت. ومن هنا بارح المكان في وقت رحت أتابعه، حتى وجدت نفسي داخل لوحاته». هذا مجرّد حلم لم يتحقّق ولا يمكن أن يتحقّق فعلا، ولكنّ كيروساوا استأصله من العدم، من ذاكرته البعيدة، من براءة طفولته، وصيّره أمرًا واقعًا في السينما مثلما صيّر كلّ أحلامه القديمة في «الأحلام»، الفيلم الذي شغل النقاد ومتابعي سابع الفنون.
إنّها لمفارقة مدهشة أن يتضمّن هذا الفيلم الأخير في مسيرة كوروساوا اللوحة الأخيرة لـفان جوخ. ثمّة على ما يبدو خيط سرّي وساحر بينهما لا يمكن إضاءته بسهولة. إنّ الحدث التشكيلي الذي ختم به الرسام سرديته في العالم هو نفسه الآن يتكرّر كجزء من نهاية سردية السينمائي. بالكاد نقول إنّ فيلم الأحلام ما هو إلا انفجارات مشهدية للوحات فان جوخ رغم تعتيم المخرج على ذلك في جلّ المشاهد باستثناء وضوحه السافر في مشهد واحد أين توضّحت صورة هذا الرسام في الحلم الخامس تحت العنوان التالي «الغربان».
ما يوجد في هذا الفيلم هو الأحلام التي لم تشطب من ذاكرة كوروساوا. تبدأ مشهديًّا تحت العناوين التالية: «الشمس تشرق من خلال السحب، بستان الخوخ، العاصفة الثلجية، النفق، الغربان، جبل فوجي، الشيطان الباكي، ثم قرية طواحين الماء» يحيل المشهد الأوّل إلى عرس، ولكنّه مخيف ومرعب أمّا المشهد الأخير فيحيل إلى الموت ولكنّه ساحر ومشتهى، وما تبقّى في بقية المشاهد فهو المريع من حيث انتمائها جميعا إلى سؤال الإنسانية في هذا العصر المجبول على الخوف والحروب.
ما يشدّنا ونحن نضع فان جوخ في هذا السياق ليس مشهد الغربان بوصفه الحلم الخامس من حيث ترتيب مشاهد الفيلم فحسب. إنّنا نشاهد هذا الرسام كشخصية في العمل السينمائي، شخصية أدّى دورها المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي ببراعة مدهشة. الطريف في الأمر هو أنّنا نلتقي بهذا الرسام في موضع تراجيدي عنيف ومرعب، إنّنا لا نشاهد وجهه بالكامل، لقد غطّت معظم تفاصيله الضمّادات بعد أن قطع أذنه. قبل ذلك، نلتقي ببطل الفيلم متجوّلا أمام لوحات هذا الرسام: من لوحة «وجه الفنان» الموضوعة في متحف أورسي بباريس إلى لوحة «الليل المكوكب» الموضوعة بمتحف الفنّ الحديث بنيويورك، ومنهما إلى لوحة «أزهار دوّار الشمس» الموجودة بالمتحف الجديد بألمانيا فلوحة «الغربان» حيث وضعت في متحف فان جوخ بأمستردام، وهكذا تباعا.
بسحر سينمائي غريب ومرعب يفجّر المخرج اللوحات فإذا بالبطل يتجوّل داخلها لا أمامها. لقد تحرّكت اللوحات فأصبحت أمكنة وفضاءات سينمائية مدهشة بعد أن تحرّرت من جمادها، وهكذا التقى البطل بـفان جوخ. لقد صنع الرسام خرائطه التشكيلية كمساحات مشهدية مذهلة، أمّا كوروساوا فقد جعل من هذا الرسام يسكنها بعد أن أدخله إيّاها ليلتق وجها لوجه مع بطل الفيلم.
ما الذي تبقّى من فان جوخ بعد أن قطع أذنه؟ لا شيء، إنّه عدم الإنصات إلى العالم، عدم الاكتراث به، لقد امتلأ بأسباب الرحيل. هكذا لم يكترث ببطل الفيلم، تركه وحيدًا داخل تلك اللوحات ورحل، وحين حاول الأخير الهروب من عالمها وقع ضحيّة، لقد هاجمته الغربان بعد أن تحرّكت اللوحة فصار المشهد مرعبا، قاسيا، تراجيديا، ساحرا وخلابا في الآن نفسه.
لكأنّ كوروساوا بهذا الأمر يريد أن يقول «لقد رحل عنّا فان جوخ، لكنّ الغربان التي حذرنا منها مازالت تترصدنا». ولكنّ المدهش هو أنّه مثلما تجوّل أنطونان أرتو في متحف «أورانجوري» سنة 1947 ليشاهد تلك اللوحات ومن ثمّ الكتابة عنها، تجوّل أيضا بطل فيلم الأحلام في تخومها.
تحدّث أرتو عن الغربان كثيرًا، إنّها وليدة السحب المظلمة ومؤسسات المجتمع التي وجّهت تهمة الجنون إلى الفنانين، ولكن يبدو أن كيروساوا توغّل في هذا الأمر على نحو مربك ومدمّر في حلمه الرابع: «النفق» بوصفه علامة جذريّة على خلل عصابيّ يصيب الإنسان ويقذف به في نوبات هلع مدمّرة من شأنها خلع القلب من شدّة الخوف. في هذا المشهد يدخل قائد عسكري متعب إلى نفق مظلم يحرسه كلب جحيميّ ومخيف، وحين يصل إلى عتبة الضوء بعد عبور هذا النفق يستمع إلى أصوات مصدرها وقع أقدام منتظمة، يلتفت إلى الوراء فيصاب بالذهول: إنهم مجموعة الجنود في كتيبته الذين قتلوا في الحرب.
كيف للموتى أن يعودوا؟ يصرّ الضابط على إقناعهم بموتهم، ولكنّهم يرفضون ذلك ويطلبون منه العودة إلى ديارهم فلم يكن من حلّ بالنسبة إليه سوى أن يأمرهم بالعودة إلى النفق. ما نكتشفه من خلال هذا المشهد هو حجم الكوابيس المرعبة التي تلاحق هذا الضابط بعد أن تمّت عمليّة إبادة كتيبته فصار مهووسًا بالخوف، مرتعبًا من صورتهم القديمة، أمّا ذلك الكلب فهو شفرة سينمائية مرعبة تحيل إلى نوبات الهلع التي تلاحقه. على النحو نفسه سوف يتكرّر الأمر في الحلم السادس والحلم السابع: «جبل فوجي والشيطان الباكي». ها هنا يدين كوروساوا هستيريا فلاحة الخراب التي أوقدها الإنسان باسم الاحتفال بالقنابل الذرّية وكيف حصدت مستقبله ومن ثمّ يتحوّل إلى شيطان يبكي أفعاله المخزية. هل أصبحت الشياطين أكثر رحمة في هذا العالم من الإنسان؟
نعم، إنّ ما يوجد في أحلام كوروساوا لهو شبيه جدًا بتلك التحريضات العنيفة التي وقّعها أرتو ضدّ العقل البشري ومؤسسات المجتمع التي حنّطها انحيازها إلى ثقافة القهر والتدمير، أمّا الغربان فهي عنوان المشترك الذي منه يأتي منه قادح الإدانة هذا، المشترك الذي يجعلنا ننظر إلى العالم الآن بشكل فيه الكثير من الريبة والتشكّك.
فكم من غربان تحوم حولنا الآن ونحن لا نكترث لخطرها ونستسلم بدلًا من ذلك إلى الطمأنينة؟
ها هي المصحات النفسية تزداد في هذا العالم، ها هي الحروب تشتعل الآن بشكل متزايد، ها هي الكارثة توسّع من مجالات نشاطها كلّ يوم، ها هي الغربان تسمّم طوفان السنابل الذهبية مرّة أخرى. ليس فان جوخ مجنونًا، وربما لم يمت إلّا بوصفه جسدًا، إنّ حدسه الرائع يربكنا الآن، يجعلنا نرتجف مرّة أخرى أمام نعيق غربانه السّود.