كيف ساهم الفن الرومانسي في ظهور الدول القومية الحديثة؟

single

هند مسعد

 

نشأت الرومانسية كحركة فنية تشكيلية في أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر كرد فعل على العقلانية المفرطة والثورة الصناعية والنظرة العلمية المتحجرة للطبيعة التي سيطرت في عصر التنوير والقواعد الصارمة للفنون الكلاسيكية. لذلك، فقد سعى الفنانون الرومانسيون للتعبير عن المشاعر والخيال والفردية في أعمالهم. وبالتالي؛ ركّز الرومانسيون على العاطفة والحدس بدلاً من العقل، وأظهروا اهتمامًا عميقًا بالطبيعة وتجلياتها الرائعة، واحتفوا أيضًا بالفردية والخصوصية التي يتمتع بها كل فرد بشكل خاص. ونجد بالتبعية أن الفنانين الرومانسيين ركزوا على رسم مشاهد درامية ومناظر طبيعية، ومواضيع خرافية أو تاريخية في إطار التعبير عن المشاعر والتجارب الشخصية.

تعكس الأعمال الفنية لرسامين مثل كاسبار ديفيد فريدريش وأوجين ديلاكروا وغيرهم من رواد الحركة الرومانسية الخصوصية والفردانية التي يتمتع بها الإنسان، والعظمة التي تكتنف الطبيعة مقابل قسوة العقلانية التي تنزع السحر عن العالم.

ونرى ذلك في لوحة متجول فوق بحر من الضباب (بالألمانية: Der Wanderer über dem Nebelmeer)، 1818، لرائد الرومانسية الألماني كاسبر ديفيد فريدريك، والتي تعتبر رمز للحركة الرومانسية ككل. وتُظهر اللوحة رجلا يقف على حافة قمة صخرية وسط الغيوم متطلعا نحو بقية القمم الجبلية التي تُغطيها الغيوم. تمتد الغيوم في الأفق حتى تختلط بالسماء، فيما يقف المتجول وظهره للرائي.

 

متجول فوق بحر من الضباب (1818) - كاسبر ديفيد فريدريك

 

الرومانسية كبنية تحتية للدول القومية

لم تكن الرومانسية حبيسة جدران عالم الفن التشكيلي في القرن الثامن عشر. بل امتدت وشملت عالم الأدب والموسيقى حيث بثت الحركة الرومانسية روح الحياة في الفنون الفلكلورية والعادات الشعبية وكل ما من شأنه أن يميز الفرد في وجه آلة التنوير والثورة الصناعية التي على العكس من ذلك لا تعطي للفرد أي خصوصية ولا تعتبره غير ترس في آلة كبرى هي العالم المادي.

ويرى المؤرخ الثقافي الهولندي جوزيف ثيودور ليرسن | Joseph Theodoor Leerssen، جامعة أمستردام، في عمله: «ملاحظات نحو تعريف القومية الرومانسية | Notes towards a Definition of Romantic Nationalism»، أنه من بين المواضيع الرئيسية للرومانسية، وإرثها الأكثر ديمومة، كانت التأكيدات الثقافية للقومية الرومانسية والتي شغلت مكانة مركزية في فن ما بعد عصر التنوير. 

وعليه، فمنذ بدايتها، اتسمت الرومانسية بالتركيز على رعاية اللغات الوطنية، والحفاظ على الفولكلور والموروثات الشعبية، وتقدير الأهمية الروحية للعادات المحلية في مواجهة وحش الثورة الصناعية والتنوير الضاري. إلا أن هذا الاحتفاء بالجذور والممارسات الثقافية سيعيد تشكيل خريطة أوروبا وسيكون محفزًا رئيسيًا في الدعوة إلى تقرير مصير العديد من القوميات.

تلك كانت البداية إذن، حسبما ترى الباحثة السياسية آن هيلد فان بال | Anne Hilde van Baal، جامعة أمستردام، في عملها «موسوعة الرومانسية القومية في أوروبا  Encyclopedia of Romantic nationalism in Europe»، بالتعاون مع ليرسن السالف ذكره. فقد جعلت الحركة الرومانسية التشكيلية من القومية موضوعًا أساسيًا داخلها. وكانت القومية بالتبادل لها دور حاسم في تشكيل أدوار هذه الحركة الفنية وتعابيرها ومعانيها.

وعلى حد تعبير فان بال، ظهرت القومية الرومانسية بسبب التفاعل المعقد بين الإنتاج الثقافي والأيديولوجيات السياسية. وتحول ذلك إلى احتفاء بالوطن والعرق. والذي يتميز بالتبعية بلغته وتاريخه وهويته الثقافية. وأصبح هذا التعبير بدوره أداة قوية في تشكيل الوعي السياسي، وربط بشكل واضح لا لبث فيه بين الإبداع الفني والجماليات من ناحية والفخر الوطني القومي القائم على أساس العرق من ناحية.

وبالعودة لأعلام الحركة الرومانسية من الرسّامين، نجد أن واحدة من أبرز اللوحات التي تعبر عن الحركة الرومانسية هي لوحة تتناول الثورة الفرنسية، اندلعت عام 1789، وهي لوحة الحرية تقود الشعب لرائد الرومانسية الفرنسي «أوجين ديلاكروا | Eugène Delacroix».

تُخلّد اللوحة الثورة الفرنسية التي قادتها المعارضة الليبرالية للإطاحة بالنظام الملكي، وعلى إثرها قامت الدولة الفرنسية الحديثة. يقف جسد الحرية في اللوحة متمثلًا في شكل امرأة تملأها الحيوية وتقود الناس. هذه المرأة هي "ماريان" وتُعتبر ماريان تجسيد استعاري وتصوير لإلهة الحرية، وترمُز عادة للأمة والوطن والقيم المدنية الحرة في الثقافة الفرنسية.

 

موجات التحرر القومية في أوروبا

كذلك يعتبر العام 1848 عامًا فاصلا في تاريخ القومية الرومانسية حيث انتشرت موجات ثورية عبر القارة الأوروبية بأسرها. كما اندلعت العديد من الثورات القومية في مناطق مجزأة مختلفة (مثل إيطاليا) أو دول متعددة الجنسيات (مثل الإمبراطورية النمساوية). وبينما سقطت الثورات في البداية في أيدي القوى الرجعية وتم إعادة تأسيس النظام القديم بسرعة، فإن الثورات كانت بمثابة جرس إنذار وخطوة أولى نحو التحرير وتشكيل الدول القومية الحديثة في معظم أنحاء أوروبا.

وعلى هذا المنوال، خرج من رحم الرومانسية، والتي هي فكر فني وثقافي بامتياز، القومية الأوروبية محاولة تغيير العالم القائم وابتكار عالم آخر قائم على امتيازات عرقية، لكن تلك الامتيازات العرقية كان يُنظر لها على أنها تمييز للفرد في مواجه الآلة والثورة الصناعية في البداية وليس أفضلية عنصرية.

فاحتفاء واحتفال الرومانسية بتفرد الثقافات المختلفة وجذورها التاريخية، وتسليط الضوء على الهويات الثقافية والتراث، إلى تغذية المشاعر القومية التي من شأنها حثّ الناس على تمجيد خصوصيتهم المجتمعية. فامتد الأمر ليشمل تمجيد الملاحم الوطنية والفولكلور والقصص والحكايات الشعبية.

 

الضفدع تساريفنا (1918) - فيكتور فاسنيتسوف

 

نرى مثلا أن لوحة «الضفدع تساريفنا | Tsarevna Frog» للفنان فيكتور فاسنيتسوف، رسمها عام 1918، غالبًا ما تُعتبر رمزًا للقومية الرومانسية بسبب ارتباطه بالفولكلور الروسي والحركة الثقافية والفنية الأوسع خلال تلك الفترة. تصور اللوحة موضوع حكاية خرافية، حيث تُظهِر ضفدعًا يتحول إلى أميرة، وهو عنصر سردي متجذر في التقاليد الشعبية الروسية.

ويمكن فهم سبب الشعبية الواسعة التي حظيت بها اللوحة في سياقها التاريخي لأنها رسمت بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذي كانت فيه القومية الرومانسية، بما فيها من اهتمام بالهوية الوطنية والفولكلور، مسارًا جذابًا لأي رسام يرغب في تحصيل الشهرة في الأواسط الثقافية بما في ذلك في روسيا. وبالفعل فإن لوحات فنانين عدة مثل فاسنيتسوف كانت تُعتبر احتفاءًا بتفرد وأصالة وتقاليد الأمة الروسية.

وحتى اليوم، تعتبر «الضفدع تساريفنا» انعكاسًا لروح القومية الرومانسية القائمة على الأساطير الشعبية الروسية. ويُنظر إلى اللوحة على أنها تمجيد للتاريخ الثقافي الثري ومصدر للشعور بالفخر والهوية بين الروس. ولا تزال تعتبر بمثابة تمثيل مرئي للثراء الثقافي والتفرد في روسيا، وواحدة من أهم إنتاجات الحركة القومية الرومانسية في البلاد.

هنا نرى أن هذا التركيز على الروايات الوطنية ساعد في تعزيز الشعور بالتاريخ والثقافة المشتركة بين مجموعات معينة من الناس؛ وتمجيد للعرق والدين واللون في مقابل التفكك الهوياتي الذي فرضته الثورة الصناعية. كذلك أدى سعي المفكرين الرومانسيين إلى إحياء الثقافات واللغات الشعبية التقليدية والحفاظ عليه اإلى التركيز على التفرد اللغوي والثقافي وهو ما أدى بالتبعية إلى تطوير اللغات الوطنية وفكرة أن اللغة المشتركة أمر بالغ الأهمية للوحدة الوطنية والقومية.

 

صعود الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر

تلك البنية التحتية الثقافية التي خلقتها وغذتها الرومانسية أدت لصعود مختلف الحركات القومية الأوروبية. كما كان للجوانب العاطفية والرومانسية للأدب والفن الرومانسي صدى مع تطلعات أولئك الذين يسعون إلى الاستقلال السياسي وتقرير المصير لأممهم وشعوبهم.

لذلك عمد الفنانون الرومانسيون إلى تصوير المناظر الطبيعية والأحداث التاريخية والرموز الوطنية في أعمالهم لأنها كانت ستجد حفاوة وصدى أكبر في الأوساط الثقافية والفنية التشكيلية إذا كانت متناغمة مع التيار العام الداعي لتأسيس دولة قومية والذي يحتفي بالرموز والصلات مع الماضي العتيق.

بالتالي، ساهم هذا التمثيل المرئي للهوية الوطنية بدوره في تكوين لغة بصرية ورمزية مشتركة يمكن للناس التعرف عليها كجزء من مجتمع أكبر. وباختصار، لعب تركيز الرومانسية على العاطفة والتفرد الثقافي والارتباط بالتاريخ دورًا في تعزيز المشاعر القومية في جميع أنحاء أوروبا وخارجها منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر.

 

دور الفن التشكيلي في صعود هتلر والقومية الألمانية

يمكن فهم صعود الفاشية الألمانية في هذا السياق حيث كانت للفاشية الألمانية في عهد هتلر علاقات قوية مع القومية الرومانسية الألمانية سواء السياسية أو الفنية. وقد قام الحزب النازي، بقيادة أدولف هتلر، بدمج عناصر القومية الرومانسية في سرده وسياساته. ثم نشر هتلر والنازيون شكلاً متطرفًا من القومية، حيث أضفوا قدرًا كبيرًا من المثالية والتفوق على مفهوم العرق الآري الراقي والطموح، وفقًا لهم، وروجت ألمانيا النازية على إثر ذلك، لإنشاء إمبراطورية جرمانية كبرى.

 

أرنو بريكر ينحت تمثالًا نصفيًا لألبرت سبير، وزير أسلحة الرايخ

 

في سبيل تحقيق هذا الطرح الطوباوي الرومانسي؛ أضفت النازية الألمانية طابعًا رومانسيًا على فكرة الحضارة الجرمانية النقية والقديمة، مستوحين الإلهام من الأساطير والفولكلور والرموز المرتبطة بالماضي التاريخي لألمانيا. وبالفعل، كانت هذه النظرة الرومانسية للتاريخ الجرماني بمثابة الأساس لطموحات النازيين الإقليمية.

باستغلال هذه المفاهيم، برر النازيون حروبهم التي شنوها تحت حكم هتلر، بما في ذلك التوسع الإقليمي، من خلال استحضار رؤية طوباوية رومانسية لماضي ألمانيا المجيد والقديم. وهنا بالتحديد لعب ذاك التشابك بين الفاشية الألمانية والقومية الرومانسية دورًا محوريًا في تشكيل الأسس الأيديولوجية للرايخ الثالث.

وفي الوقت نفسه، ساهمت الجنسية اللغوية والثقافية، المتأثرة بمفاهيم العرق في تشكيل ادعاءين عنصريين دائمين: الأهمية والتفوق. وتعطي تلك المفاهيم ضمنيًا الأولوية والحق المؤكد غير القابل للدحض لشعب محدد ثقافيًا وعنصريًا في منطقة جغرافية محددة، يشار إليها غالبًا باسم "الوطن / الدولة".

وباختصار، لعب تركيز الرومانسية على العاطفة والتفرد الثقافي والارتباط بالتاريخ دورًا في تعزيز المشاعر القومية في جميع أنحاء أوروبا وخارجها منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وبتتبع سياق صعود وسقوط ألمانيا النازية يمكن فهم الدور الذي لعبته الرومانسية، التي بدأت كمذهب في الفن التشكيلي، في السياسة القومية في أوروبا ككل وكيف وصل بها الأمر لأن لعبت دورًا محوريًا في اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية.

 

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه