لوحة الثالث من مايو: غويا وفنّ مناهضة الحروب

single

سارة الراجحي

 

الفن التشكيلي لغة تعبيرية تفتح آفاقًا واسعة للأفكار والمعاني وتمنحها القدرة على الانسكاب بخفة في ذواتنا، والأعمال الفنية العظيمة تُعرف بضربٍ من سيطرتها علينا إذ تحرك الحس وتوقظ المشاعر الغافية، كما أنها تساعدنا على فهم التجارب البشرية بأفراحها وأتراحها، وهي أثناء ذلك تستدعي لذةً جمالية وافرة حتى في أشد مواضيعها حزنًا أو قبحًا. يمكن ملاحظة هذا جيدًا عبر تأمل لوحات الحروب، إذ تتشكل عليها الوجوه والأجساد البشرية في حالاتها المروعة والمحزنة ورغم ذلك نستغرق في تجربة جمالية غنية، وكأن الفنانين يقيمون نصبًا من الجمالية في معبد الأسى. لكن مواقف الفنانين من الحروب ولوحاتهم لا يمكن وضعها جميعًا تحت تصنيف الفن المناهض للحرب والمشبع بمرارة الفنان وقلقه وانشغال حسه المرهف أمام الرعب والموت، بل تتباين مقاصد الفنانين واستلهاماتهم ومواقفهم، فحتى بداية القرن التاسع عشر كان فن الحرب المألوف هو الفن الذي يتناول الحروب على سبيل التمجيد، فالفنان ينساق وراء الموقف السياسي وينحو نحو تمجيد المعارك وتصويرها من زاوية القصص البطولية، أو إظهار القائد بالمظهر الجليل، بل حتى الرحيم والمبارك، لا سيما إن كان الفنان قد اُستدعي كفنان حرب. ذلك الاستدعاء الذي كان شائعًا عبر التاريخ؛ إذ يُدفع بالفنانين في مهمة التوثيق، أو التعظيم ورفع المعنويات، أو شيطنة العدو.

وقد أعطت الثورة الفرنسية -كما يشير المؤرخ الفني إرنست غومبرتش- دفعًا عظيمًا لهذا النوع من الاهتمام بالتاريخ وتصوير موضوعات البطولة، فلقد أحب الفرنسيون أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم إغريق أو رومان مولودون من جديد، فلا عجب أن اصطحب نابليون الفنانين في معاركه التي ألهمت فنانين كثر، مثل جاك لويس ديفيد – الفنان الرسمي للحكومة الثورية – ونيكولاس توسان شارليت، وأوغست رافيت، وأنطوان جان غروس… وآخرون.

 

نابليون في ساحة معركة إيلو – أنطوان جان غروس (1808)

 

كان هنالك أيضًا حضورٌ مختلف وخجول لبعض لوحات الحروب لا يُذكر كثيرًا في التأريخ الفني، وهو الفن التوضيحي الطبي، الذي يقوم فيه الفنان الخبير بتشريح الجسد وتوضيح الإصابات والجروح والتقنيات العملية من أجل تثقيف الجراحين الآخرين. كان رائد هذا النوع من الفن هو الجراح الفنان تشارلز بيل، والذي استهدف أيضًا عبر تلك الرسومات إلى إثارة عاطفة المعالجين والمراقبين، وليفهم الجميع آثار الحروب على المصابين.

لوحة لجندي بذراع مفقودة – تشارلز بيل (1815).

 

على صعيدٍ آخر كان هناك الفنانون الذين يحملون البندقية بدلًا عن الفرشاة واللوحة، فـفي خضم تلك الأحداث الجسيمة «لا أحد يفكر بالفنون» على حد قول الرئيس التنفيذي لأكاديمية التصميم الوطنية في نيويورك إبان الحرب الأهلية الأمريكية وهو يعبّر عن أسفه.

كما كان هناك من يتوارى عن المشهد الفني نظرًا لتراجع الفن بموضوعاته الأخرى لدورٍ ثانوي في المجتمع، بالإضافة إلى نشوء الصعوبات الاقتصادية التي تحد من النشاط الفني، كصعوبة الحصول على مواد الطلاء والرسم، أو المواد الأخرى المستخدمة في الفنون التقليدية، كما هو الحال عن الفنانين اليابانيين التقليديين الذين عانوا وقت الحروب من نقص خيوط الحرير والقطن والأصباغ الخاصة التي تستخدم في فن الـ nihonga..

أما الفن الذي يُدين الحروب واستخدم فيه الفنانون مواهبهم للاحتجاج عليها والسعي إلى تغيير الطريقة التي يفهم بها الناس الحروب، والذي يبدو مألوفًا لنا الآن ويتسق مع النظرة التنزيهية الشائعة عن الفن، فقد ظهر في بداية القرن التاسع عشر عبر الفنان الإسباني فرانسيسكو غويا (1746-1828)، إذ يمكن القول إنه قد سنّ سنة شجب وإدانة الحروب عبر الفن واعتباره شاهدًا على رعبها ومعاناة الناس فيها. لقد كانت شخصية غويا واستقلاله عن التقاليد الفنية وانقطاعه عن تراثها قد أورثوه الحرية في تسجيل رؤاه وانفعالاته كما هي، وهو أمر – كما يقول غومبرتش – لم يفعله إلا الشعراء.

بقي غويا متفردًا حتى منتصف القرن التاسع عشر، حينها أخذت معارضة التقليد التمجيدي للحروب تتزايد، وبدأ الفنانون يعبرون عن مشاعرهم الغاضبة وتحويل عاطفتهم بعيدًا عن جنرالات الحروب وقادتها نحو الجنود البسطاء وما يكابده الناس في الحروب، ومن أشهر تلك اللوحات لوحة «الوطن»، التي صور فيها الفنان جوزيف باتون جندي أسكتلندي عائد لمنزله، بعد فقده ليده، تحتضنه زوجته، وتبكي والدته فوق كتفه، فيما الرضيع نائم، والكتاب المقدس مفتوح في إشارة إلى أنه مصدر القوة لأسرته في غيابه.

الوطن.. العودة من شبه جزيرة القرم – للفنان جوزيف باتون (1856)

 

إن تتبّع تطورات فن الحروب والتاريخ البصري لها يستحق الإفراد بمبحثٍ أو مقالة، لكن هذه المقالة ستستلفت النظر إلى غويا، صاحب «أعظم مانيفستو ضد الحرب في تاريخ الفن»، على حدّ وصف الناقد الراحل روبرت هيوز.

 

سلسلة كوارث الحرب والجانب المظلم من التنوير

انتقل غويا من جانب فن البلاط الملكي والبورتريهات وبعض مظاهر الحياة الاعتيادية إلى جانب آخر مختلف وهو الرصد والتعبير عن الجانب المظلم لذلك العصر الذي زخر بالاستبداد الديني والجهل والنفاق الاجتماعي والحروب، والظلمة التي غشت جنباته، وهنا تكمن أهمية فن غويا باعتباره شاهدًا على العصر الذي جاء فيه بكل ما فيه، لاسيما تلك الحروب التي وثّقها بطريقة غير معهودة عبر سلسة «كوارث الحرب» والتي تعتبر ضمن المرحلة المتوسطة في حياته الفنية. لقد عاش غويا حياةً طويلة، كان فنه الأول فيها منتميًا لمدرسة الباروك المصقولة والبهيجة، لكن لمّـا استمر تسيّد القمع والجهل واحتدت الأحداث السياسية، وأنهك غويا المرض والصمم؛ أصبح العالم بالنسبة له مسكونًا بالشر ومُضاءً بشمسٍ سوداء؛ فانفصلت أعماله عن فن عصره وعن عالم الجمال والانسجام والنبل لتلتصق بعالم الآثام والنفور والتشاؤم، لاسيما أعماله الأخيرة «اللوحات السوداء» التي كان الانفصال فيها على نحو راديكالي. ويمكن الاستعانة بلوحتين بينهما ثلاثون عامًا يشتركان في الموضوع ذاته (الحج إلى سانت ايزيدرو) لتلخيص حجم التغيير في مسيرته الفنية.

الحج إلى سانت ايزيدرو (1788) 

 

الحج إلى سانت ايزيدرو – (1819-1832)

 

كان غويا ذو الأفكار التحرريّة أحد المرحبين بالتدخل الفرنسي في إسبانيا عام 1808 ظنًا منه أن «التنوير» سيفكّك إسار الجهل والتخلف ويخفف من وطأة الاستبداد الديني، إلا إن الجيش الفرنسي الذي اقتحم إسبانيا بهالة من المُثل التنويرية أخذ يرتكب الفظائع في تناقض سافر ما بين الادعاءات والواقع، فبدلًا عن حلول نسائم الحرية والكرامة والتسامح والعدل على الإسبان حلت كوابيس المهانة والظلم والفوضى، وأدبر نهار التنوير بالعتمة حين أقبل ليلها، وكأن الحروب مهما كانت غايتها أو ادعاءاتها لا يمكن أن تكون نقية وخاليةً من الأهوال، بل إن الصبغة "الرسولية” قد يتم معها استسهال القتل والظلم أو تبريره. لقد ارتبط بفكرة التنوير شعور الثقة والإيجابية كما لو أنه كتلة واحدة متجانسة، لكن يمكن القول إننا نستطيع تلمس الجانب المظلم منه عند بعض الفنانين والأدباء بطرق متباينة. في حماسة الماركيز دو ساد التنويرية التي انتهت به إلى يكون أشبه بنبي الجريمة، مجتمعه البشري المثالي عبارة عن سوءات بارزة وقلعة معزولة تتعرض ضحاياها خلف الجدران للإذلال والتعذيب والموت. أو عند تشديرلوس دي لاكلوس مؤلف رواية «علاقات خطرة» التي يمكن اعتبارها رواية عن عصر التنوير من جوانب مختلفة، بما تحمله من مفارقات حول قيم التنوير، وما يحدث في طبقات النبلاء من انحطاط يتمثل في إذلال الآخرين والحط من قدرهم من أجل المنفعة الشخصية. وعند غويا الذي ظلّ هو الأكثر تنبيهًا لجانبه المظلم.

لقد خاب ظن الفنان المرحّب بالتنوير، بعد ما سارت الأحداث نحو تصدي المواطنين لجيش نابليون رافضين تحالف إسبانيا معه، واندلعت الحرب الدامية لسنوات، واصل فيها الجيش الفرنسي وحشيته فيها ضد المقاومين. ورغم تعقيد موقف غويا السياسي وازدواجيته، وتواجد الأبطال المدافعين عن الوطن مع أنصار استبداد النظام الملكي والإقطاعي في ذات المشهد، وما آلت إليه الأمور من نكسة لقضية التحرر واستعادة للحكم الملكي، ثم ما طاله من اتهام ومحاكمة فعفو ونفي، إلا أن الموقف الأخلاقي والانساني كان واضحًا عبر فنّه الذي أدان بوضوح جميع الممارسات التي تنتهك القيم الأخلاقية والإنسانية.

هذه الإدانة جاءت عبر سلسلة كوارث الحرب التي تتكون من 82 نقشًا. تنقسم السلسلة إلى ثلاث مجموعات موضوعية: أول 47 عن الحرب وعواقب الصراع، من 48-64 عن المجاعة التي ضربت مدريد قبل تحررها، وآخر 17 عن الرموز السياسية والثقافية. وقد استخدم غويا فيها تقنية الحفر بالحمض Aquatint، التي لا تتيح حفر الخطوط فقط بل حتى تكوين البقع، مما يُشيع حسًا تصويريًا مميزًا، وكثافة عاطفية قوية بفضل تدرجات الظلال والإضاءة وغياب الألوان.

كانت السلسلة عرضًا إنسانيًا مرهَفًا ومرهِقًا تتشكل فيها الصورة الأكثر تعقيدًا للحرب ككارثة إنسانية يطال شرها جميع المعنيين بها، إنها انفلات العنف والوحشية وضمور القيم والأخلاق من أجل الصراع على القوة والبقاء، وقد تظهر فيها النزعات الوحشية وتُرتكب الفظائع من الجميع. وليست ببساطة طرفين، أحدهما نبيل والآخر يستحق السحق والدمار.  ورغم أنها لم تنشر إلا بعد وفاته بوقت طويل إلا أنها كانت أشبه بتقارير متواصلة عن الموت والإعدامات الشنيعة والجثث المشوهة والمجاعة والهلع .. أعمالٌ سبقت ما حدث في العصور اللاحقة من التصوير الفوتوغرافي وتقارير المراسلين الحربيين والصحفيين، لكن غويا بعبقرية فنية لا ينسخ الواقع كمرآة جامدة أو يخضع لعماء المحاكاة، إنما يعبر عن نظرته وتصوره كفنان وإنسان، عبر تلاحمٍ بين الحكاية المروية، والمعاني والانفعالات التي تستبطنها تلك الحكاية. أي أنّ أعماله تكشف عن المواضيع الخارجية بما تحمله من معاني، وعن عالمه الداخلي المرهف والمليء بالخيبة والوجع والمخاوف العميقة. لقد استطاع عن طريق خياله الممتزج بوعيه وإدراكه العميق أن يلطم حواسنا ويحدث هزةً في دواخلنا، وألا يتورط في هذا وحده إنما كل متذوق ومدرك لفنَه.

An Heroic feat! With Dead Men! in “Disasters of War” series (1810)

 

(Here neither, in “Disasters of War” series (1815

 

إن الحديث عن لوحات غويا المتعلقة بالحرب يطول، إذ تستحق الكثير من لوحاته التوقف والتحليل، لكن المقالة ستتوقف عند إحدى لوحاته التي أنجزها بعد الانتهاء من سلسلة الكوارث، وهي تحفته: «الثالث من مايو 1808».

بعد تلك الأحداث المأساوية التي انتهت بطرد الجيش الفرنسي وتحديدًا في عام ١٨١٤ جاءت لوحتي: «الثاني من مايو» و«الثالث من مايو» بطلبٍ من الحكومة لتخليد ذكرى انتصار الإسبان المقاومين، أو كما يقول البيان المعلن: «… تخليدٌ عبر فرشاته لأكثر الأعمال أهمية وبطولة في مقاومتنا المجيدة ضد طاغية أوروبا».  لكنّها أيضًا انفلتت عن المعتاد، وجاءت على غير نمط اللوحات الفنية التي تتناول الحروب بزهو التمجيد والتخليد للانتصارات.

خرجت اللوحتان مختلفتان موضوعًا وأسلوبًا، فالثاني من مايو صورت اللقاء الدامي بين الجيش الفرنسي والشعب الإسباني المنتفض، والثالث من مايو صورّت بتراجيدية إعدام بعض المقاومين والمدنيين على أيادي جنود الجيش الفرنسي، وجاءت بوضوح من زاوية المناهضة للحروب وتعرية توحشها، والشفقة على الإنسانية من جنونها وبؤسها.

لوحة الثاني من مايو  1808 (1814)

 

لوحة الثالث من مايو 1808 (1814)

 

القراءة الفنية للوحة الثالث من مايو:

اللوحة زيتية، أبعادها: ٢٦٨سم في ٣٤٧ سم،  وهي معروضة في متحف ديل برادو في مدريد بجوار لوحة الثاني من مايو.

ميدان الأحداث فيها منطقة تبدو كتلٍّ مرتفع بمنأى عن المدينة التي تظهر بعيدة، وكأن المدنية والحضارة والكنيسة أبعد ما تكون معانيها عن مواقف كهذه.

نشاهد في اللوحة صفًّا من الجنود يوجهون بندقياتهم من مسافة قريبة إلى مجموعة من الرجال العزّل تساقطت بجوارهم جثثٌ طازجة تلطخها الدماء، ويبرز فيها الرجل ذو القميص الأبيض الناصع والذراعان الممدودتان للأعلى.

كما نلحظ بسهولة وجود فانوس مضيء، لكن هناك أيضًا قتامة تشكل ما يقارب ثلث اللوحة وركود عميق في الأفق، يلائمان المأساة والموت الوشيك، والوحشية التي يبدو أنها لن تنتهي.

في هذه اللوحة التي تتقاسمها الجمالية والمعنى، عدة أمور لها دلالتها، نذكر أبرزها كالتالي:

– وجوه القتلة لا تظهر، مقابل وجوه الضحايا التي لا تظهر وحسب؛ بل تظهر معها تفاصيل انفعالات مختلفة – وإن جمعها الخوف – تأكيدًا على انسانيتهم، بينما القتلة مندمجون في صف واحد تتطابق ظهورهم وأسلحتهم، وكأنهم وفق هذا التجهيل المتعمد مجرد« أشياء» تنفذ الأوامر، مفرغةً من المشاعر.

– الشخصية المحورية في اللوحة تم توظيف أيقونة الصلب المسيحية في إبرازها، حيث يبدو وهو ينتصب أمامهم هكذا وكأنه يأخذ مكان المسيح المصلوب، مضحيًا بنفسه لأجل أمته الإسبانية. حتى أنه عند التمعن في يده اليمنى تظهر – عبر اللون الداكن -ندبة تشبه علامة الثقب في يد المسيح أثناء صلبه (stigma).

 

– بقية الضحايا صُوِّروا وفق أشكال وأوضاع مختلفة فمنهم من يظهر ومنه من يتوارى، ومنهم من سقط، ومنهم من ينظر مفزوعًا وفيهم من يخفي وجهه من شدة الذعر، كما نلحظ وجود راهبٍ بينهم انحنى ليصلي على أرواح القتلى والأرواح التي ستنضم إليهم قريبًا ومن ضمنها روحه. واستحضار الراهب مع هؤلاء الضحايا فيه إشارة إلى أن الحروب وآلاتها العمياء تطال حتى الأبرياء تمامًا.

ونلاحظ أن التعبير عن الإحساس بالخوف في وجوه الضحايا لم يكن على نفس المستوى، أو مكررًا، إذ أبرز غويا في الشخصية المحورية مثلًا سجيّةً لم تتوارَ رغم فظاعة الموقف وهي الإرادة القوية المتمثلة بمواجهته الجريئة والمكشوفة أمامهم عمدًا.

 

– الفانوس الموضوع على الأرض صُوّر على أنه أداة مساعدة للجنود في تنفيذ أعمالهم الدموية، لكن غويا في ذات الوقت وظفّه بطريقة ذكية ودرامية فهو ليس فقط مصدر الضوء في اللوحة، بل هذا الضوء انعكس على الضحايا لإبرازهم، خاصة الشخصية المحورية التي بدت وكأنها هي المشعّة.. إضافة إلى أن غويا عمد إلى رسم خطٍّ يفصل بين الجنود والضحايا، إذ يقبع الجنود في الظلام ويتجلى الضحايا في النور.

 

 

– في هذه اللوحة – خاصة عند معاينتها مباشرة على الطبيعة – نشعر بأن الفرشاة تحركت على القماش عبر مسٍّ من العاطفة والانفعال، بل يمكننا الجزم بأن غويا قد لوّن بانفعالاتٍ انسانية حيّة، بعيدًا عن التصنع وكلف الفن الأكاديمي وقواعده التي كانت سائدة آنذاك، فهو لم يكن يسعى في لوحاته هذه إلى الجمال أو كان مسكونًا بهاجسه، بل مسكونًا بالمعاني والحقيقة التي تتطلب خلقًا، فجاء فنه تعبيرًا فرديًا ذو توجهٍ كوني، وشكلًا من أشكال التأريخ والتوثيق، مع تمددٍ شديدٍ لنطاق الشعور به.

– لم يكن تصوير الدم شائعًا في الفن لكن فنّ غويا عمومًا ذو بعدين: تحطيمي وتشييدي، يضرب الأعراف الفنية السائدة، كي يقدم عبر أصالةٍ مذهلة فنًا حقيقيًا وحرًّا يشيّد القيم والمعنى بعيدًا عن أسْر الماقبليات. إنها القدرة على اختراق النسق والتقدم عليه، التفرّد وسمات العبقرية التي يعرفها فتغنشتاين بـ«الشجاعة في الموهبة».

يبدو الدم هنا وكأنه لطخات قوية ومتفاوتة الكثافة من الطلاء القرمزي والتي يبدو أنه قد تم توزيعها بالفرشاة في مواضع، وكشطها بفرشاة أو آلة حادة في أخرى، جعلته كدمٍ ملطخ ومسكوبٍ؛ مما يستصحب شعورًا أقوى بالمأساة وتعاطفًا أعمق مع الموتى.

 

اللوحة تحتمل دلالات ورؤى أخرى، لكن يهمنا القول إجمالًا أن هذه اللوحة الرومانتيكية لم يكن التعاطي معها منذ عرضها للجماهير على مستوى الألوان والأسلوب والأشكال والظلال فقط، بل نالت باستحقاق تلقيًّا جماليًا في جوهره فكرة عريضة وعميقة للفهم؛ لذا لم تكن خاصة بحدثٍ واحد – رغم أهميته – بل هي لوحة متجاوزة لهذا الحدث، تحررت من سلطة الزمن فغدت ملامسةً لكل الناس، وملهمةً لفنانين آخرين في مناطق وأزمنة مختلفة كبيكاسو ومانيه.

 

إعدام مكسيميليان – إدوارد مانيه (1868)

 

مذبحة في كوريا – بابلو بيكاسو (1951)

 

إن عظمة أعمال غويا تقف خلفها بصيرته التي لم تهدأ؛ فجاءت بمثابة خيوطٍ ناظمةٍ لمجمل التجربة الإنسانية في أبعادها المأساوية وليست شاهدة فقط على عصره؛ لذا هي أعمال متجددة لا تبهتُ معانيها بالتقادم، إنما تستقر للأبد، ويمكننا إسقاطها بسهولة على عالمنا المعاصر، بكل ما فيه من: تعقيد المواقف والقضايا السياسية وتشوّشها، ويلات الحروب، تعاقب القتلة وتداعي قيمهم، الاستبداد الديني، والوحوش التي تستيقظ حينما ينام العقل.

 

 


 

المراجع:

Paintings, protest and propaganda: A visual history of warfare – Joanna Bourke

Goya and the Dark Side of the Enlightenment – Derek Allan

قصة الفن – إرنست غومبرتش

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه