كهف أفلاطون: هل يجب التخلي عن الفن في سبيل الحقيقة؟

single

«عمل فني للفنان مايكل رايتس بعنوان «كهف أفلاطون

هند مسعد

 

هل يمكن أن يكون الفن بئرًا نغرق فيه أو كهفًا مضللاً يحجب عنَّا الحقيقة والواقع مثله مثل كهف أفلاطون؟ كان للفيلسوف اليوناني الشهير، أفلاطون رأيًا محوريًا عن الفنّ ودوره في المجتمع. فقد جادل في عمله الشهير الجمهورية أن الفن قد يكون مضللاً إلى حد بعيد. ومرد ذلك هو أن الفن يخاطب العواطف والمشاعر لا العقل والأفكار وأن الآراء والتوجهات المبنية على عاطفة صرفة أو المتأثرة بالجانب العاطفي تميل إلى أن تكون خطرة على الفرد والمجتمع.

ذهب أفلاطون إلى ما هو أبعد من ذلك حين حظر وجود الشعراء في مدينته الفاضلة «الجمهورية» لأن الشعر والدراما وكل الفنون التي تخاطب العاطفة والقلب لا العقل ستكون مضللة ومهلكة لعقول الشباب وستشكل خطرًا على المجتمع ككل ومن ثمَّ تتعارض جوهريًا مع الرؤية الكلية التي عرض بها تلك المدينة الفاضلة. يمكن فهم فكرة أفلاطون عن خطورة الفن بمثالين، المثال الأول هو «كهف أفلاطون» نفسه، حيث يعيش عدد من الناس، غارقين تمامًا في أوهامهم، ومؤمنيين تمامًا أن تلك هي حقيقة العالم وطبيعته. يستكشف أفلاطون في الكهف، في الكتاب السابع من الجمهورية، طبيعة الواقع والمعرفة. في القصة الرمزية، يتم تقييد السجناء داخل كهف، في مواجهة الحائط، ولا يمكنهم رؤية سوى الظلال التي تعكسها الأشياء خلفهم على الجدران. يخلطون بين هذه الظلال والواقع لدرجة أنهم يظنون أن تلك الظلال إنما هي الواقع، تحدث الصدمة عندما يتم إطلاق سراح السجين ويرى العالم الخارجي، حيث يكافح في البداية لقبول الواقع الجديد ولكنه في النهاية يفهم الطبيعة الحقيقية للأشياء.

 

undefined

 

قيمة «كهف أفلاطون» تكمن في استعراض قدرة الوهم والأفكار المضللة على تقييد الإنسان وتكبيله، فالسجناء الذين لم يروا النور وقضوا جُلّ حيواتهم في الكهف مثال بسيط ومباشر لتأثر الإنسان بفكرة واحدة ليست حقيقية أو منطقية أصيلة فيما كان الوضع ليكون على غير تلك الشاكلة لو أن السجناء تلقوا قدرًا مناسبًا من التعليم وتعلموا التفكير النقدي في فهم العالم بما يتجاوز المظاهر المادية المباشرة، الانعكاسات على الجدران دافئة وجميلة وأقرب لتلفاز يعرض قصص وحكايات لكنها ليست أبدًا حقيقية.

 

المثال الثاني الذي يمكن من خلاله فهم «خطورة الفن» هو مثال حديث نسبيًا في السياق التاريخي مقارنة بأفلاطون، بالنظر مثلا للوحة الرسّام السريالي البلجيكي رينيه ماغريت، 1898 - 1967، "هذا ليس غليونًا | This is Not a Pipe"، رُسمت عام 1929؛ ثم أضاف لها ماغريت عنوانًا بجانب عنوانها الرئيسي "غشّ الصّورة | The Treachery of Image". 

غشّ الصورة صارت واحدة من أشهر أعمال رائد السريالية الشهير رينيه ماغريت لنفس السبب الذي اشتهر به كهف أفلاطون؛ ألا وهو قدرة الفن على تضليل العقل لأنه يخاطب العاطفة. اللوحة بسيطة مثلها مثل «صورة الكهف | Allegory of the Cave»، هي صورة لغليون لكن كُتب أسفل منها عبارة: هذا ليس غليونًا!

«هذا ليس غليونًا، بل لو إنني قلت إنه غليونًا لكنت كاذبًا» هكذا يصف ماجريت لوحته. ما هذا إذن؟ «صورة» غليون، هذه الصورة لا تصلح للتدخين، إنها مجرد رمز لغليون، والرمز أو الصورة لا تساوي أبدًا الشيء ذاته أو تعبر عن حقيقته كما هو في الوجود وعلى أرض الواقع.

 

The Treachery of Images, 1929 by Rene Magritte هذا ليس غليونًا، رينيه ماغريت، 1929

 

يدلو الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو  بدلوه في تفكيك وشرح لوحه ماغريت في مقدمه كتابه الذي يحمل نفس الاسم «هذا ليس غليونًا» شارحًا تلك العلاقة الموسوسة بين «الصورة والحقيقة» مجادلًا بأن اللوحة تتحدى المشاهدين للتشكيك في طبيعة العلامات وعلاقتها بالأشياء التي تمثلها. يشير فوكو إلى أن اللوحة توضح فكرة أن اللغة والصور لا تعادل الأشياء التي تشير إليها، فيسلط بذلك الضوء على تعقيدات التمثيل والمعنى في الفن واللغة. يشجع تحليل فوكو المشاهدين على إعادة النظر في افتراضاتهم حول العلاقة بين الكلمات والصور والعالم الذي تمثله. هل الصور فعلاً تُمثل حقيقة الأشياء التي تقدمها؟

هل فقد الفن هالته؟

في معرض حديثه عن الفن، يأخذ الفيلسوف الألماني والتر بنيامين علاقة الفن بالمجتمع إلى زاوية مغاييره بعض الشيء لطرح أفلاطون ورينيه ماغريت لكنها تتفق معهم أيضًا في الخطورة التي يمثلها الفن خاصة في عصر الآلة. يستكشف بنيامين في مقالته الطويلة «الفن في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي | The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction» عام 1936، التأثير التحويلي لإعادة الإنتاج الميكانيكي على الفن. ويجادل بأنه في حين أن إعادة إنتاج الأعمال الفنية يمكن أن تحاكي الجوانب المرئية المنظورة للأعمال الفنية، إلا أنها تفشل في التقاط وجودها الفريد في الزمان والمكان الذي أنتجت فيه.

 يطلق بنيامين على هذه الخصوصية الفريدة للزمان والمكان وظروف الإنتاج اسم «هالة العمل الفني» وينتقد المتاحف لتسليع الفن وتحييده، وتحويله إلى سلع استهلاكية تعزز الهيمنة الثقافية بإعادة إنتاج الأعمال الفنية؛ فهو يرى أن إعادة الإنتاج عمل سياسي وليست فني، يفصل الفن عن الطقوس التي أدت لإنتاجه، فالفاشية تمجد الماضي الأسطوري، في حين تحول الرأسمالية الفن إلى مجرد مشهد، وكلاهما يعمل على قمع إمكاناته وهو ما يغير بشكل أساسي الطريقة التي نختبر بها الفن ونقدره.

أحد المفاهيم الرئيسية التي يقدمها بنيامين أيضًا هو مفهوم «قيمة العبادة» مقابل «قيمة العرض» للفن. في مجتمعات ما قبل الحداثة، غالبًا ما كانت القطع الفنية مشبعة بأهمية دينية أو طقوسية، مما أدى إلى تبجيلها كأشياء مقدسة ذات قيمة. ومع ذلك، مع ظهور إعادة الإنتاج الميكانيكي، أصبح الفن أكثر سهولة ويتم تقديره في المقام الأول لقيمته العرضية اللحظية: «القدرة على العرض والنشر على نطاق واسع». خطر الإنتاج الواسع لصور وقصص وحكايات، سواء كنسخ أو في شكل جديد، وتقديمها للناس على أنها «فن»، خاصة في سياق وسائل الإعلام والدعاية تسمح لمن هم في السلطة بالتلاعب بالإدراك العام والسيطرة على الجماهير من خلال نشر أفكار بعينها يُراد الترويج لها وفقًا لبنيامين.

يذهب بنيامين لما هو أبعد من ذلك حين يعتبر أن الأفلام ليست فنًا؛ فالأفلام كشكل فني جماعي يتحدى المفاهيم التقليدية للتأليف والأصالة، على عكس الأعمال الفنية التقليدية، التي ترتبط عادةً بمؤلف أو فنان واحد، فإن الأفلام عبارة عن جهود تعاونية تشمل المخرجين وكتاب السيناريو والممثلين والفنيين. هذه الطبيعة التعاونية، جنبًا إلى جنب مع إمكانية إعادة إنتاج الفيلم، تطمس الحدود بين الأصل والنسخة ولا تقدم خصوصية فنية أو إبداع فردي خاص خالص بل سلع  ثقافية فقط في العصر الحديث. وفقًا لبنيامين، فإن فقدان الهالة هذا يتحدى المفاهيم التقليدية لتفرد الفن وأصالته.

 

وهم المحاكاة وفخ المجاز

يدخل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في تلك المعركة حامية الوطيس فيأخذ موقف مناهض ضد أصحاب الآراء المخالفة لأفلاطون وماغريت وحتى بنيامين؛ والذين يعتبرون الفنون الحديثة خاصة المسلسلات والأفلام والأغاني هي محاكاة يُراد منها استعراض قصص حدثت بالفعل على أرض الواقع. 

فمفهوم جيل دولوز للمحاكاة يضرب بجذوره في استكشافه الفلسفي للأنطولوجيا والتمثيل حيث يستكشف كيفية تمثيل الأشياء وكيفية ارتباط تلك التمثيلات بالواقع؛ تمامًا مثل ما طرحه ميشيل فوكو في نصه «هذا ليس غليونًا». فإن العمل الفني، أي كان نوعه، ليس هو الحقيقة. وبالنسبة لدولوز فإن حتى«المُحاكاة» تعد تمثيلًا رديئًا ومضللاً للحقيقة. فالمحاكاة، بالنسبة لدولوز، ليست مجرد نسخة أو تقليد لأصل؛ إنه تمثيل لمعاني فقدت ارتباطها بأي واقع ضمني أو معنى أصلي. ترتبط فكرة دولوز تلك عن المحاكاة بنقد ما بعد الحداثة للتمثيل والتشكيل وتقديم الكثير من المواد الإعلامية للجماهير على إنها «عمل فني»، بالنسبة له فكرة أن الصور والعلامات أصبحت منفصلة عن معانيها الأصلية في المجتمع المعاصر هي خطر محدق، يؤدي هذا الانفصال إلى انتشار الصور والإشارات التي لا تشير إلى أي شيء حقيقي، بل وخلق عالم جذا خيالي من «المجاز» وليس الحقيقة.

بهذا المعنى، تمثل المُحاكاة فقدان المعنى والحقيقة، حيث تصبح التمثيلات، التي تُقدم على أنها «فن» جوفاء وخالية من الأهمية، وفيما يتعلق بكيفية فهمنا للواقع وبنائه من خلال الصور والعلامات والتمثيلات التي قد لا تشبه سوى القليل من العالم الذي تزعم أنه يمثله، فإننا وفقًا لكل الفلاسفة السالف ذكرهم علينا أحيانًا التخلي عما يُقدم لنا على أنه «فنّ» في سبيل الحقيقة، فنحن ها هنا والآن، في القرن الحادي والعشرين، قد نكون ضحايا نفس الكهف الذي قدمه أفلاطون؛ فقط نسخة مختلفة.

 

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه