منى المهدي
راتينَج [مادة تخرج من أشجار كثيرة عند شَقّها، وتكون غالبا مختلطة بالصُّموغ والزيوت] المعجم الوسيط.
ربما صادفت في جولاتك الإنترنتية الممتدة لآخر ساعات الليل مقطعًا مرئيًا هذا محتواه: «سائل رقراق شفاف ذو ميوعة عالية، ينساب بسلاسة بين شقوق وأخاديد قطعٍ خشبية مُنتقاة بعناية»... «امتزاج عذب لمسحوق ملوّن ينثر بعناية فوق سطح هذا السائل ويندمجان في رقصة كأنها دوامة سحرية في مشهد من فيلم خيالي». عشرات، بل مئات من مقاطع صناعة القطع الفنية وقطع الأثاث والمجوهرات واللوحات تدور في الانترنت معنونةً بفنّ الراتنج المعروف باسمه الفرنسي/ اللاتيني الريزن Resin، وباتت شريحة من الناس تستقبلها كمواد مرئية مريحة مهدئة للأعصاب كإحدى مواد المحفزات الصوتية أو المرئية ASMR.
عرفت الشعوب منذ أقدم الأزمان الصمغ أو الراتنج وهي مواد عضوية طبيعية مصدرها الأزهار العشبية وبراعم ولحاء الأشجار. تخرج العصارة السائلة من أخشاب الأشجار الحية ثم تتحول لمادة صلبة بعد تعرضها للهواء. وقد كان لها حضور في مرويات الشعوب القديمة التي استخدمت اللبان والصمغ في البخور واشتملت عليه طقوسها وشعائرها الدينية بالإضافة إلى أغراض التصنيع البدائية في الأسلحة، وكذلك كمواد مطهرة ومعقمة للفم تطورت عبر الأزمان إلى محبوبتنا العلكة!
العهد الجديد
وكما هو الحال مع معظم موارد الطبيعة الفائقة، كان لابد للعقل البشري المولع باستلهام الأفكار مما يرى ويسمع ويعايش أن يجرب في مختبره الخاص ويخرج بنسخة مصنعة يطوّعها كيف يشاء، مجتهدا أن يبلغ بها درجةً أعلى سواءً من حيث النقاء أو الديمومة أو الصلابة أو باقي الصفات، حتى وإن تجاوزت مستويات تفوقه وديمومته الحدّ واستطالت عمرًا أزليا لمنتجٍ عصيٍّ على التحلل أو العودة كموادّ أوليّة إلى دورة الطبيعة.
مسيرة الراتنجات الصناعية بدأت منذ العام ١٨٦٩ في الولايات المتحدة الأمريكية، ومرّت كغيرها من الصناعات بالكثير من المراحل التي حلّ فيها المكون الصناعي مكان المكون العضوي الطبيعي حتى استبداله بالكامل. لن أضجركم في هذا المقال بالحقائق العلمية والتاريخية حول هذه المسيرة، بل سأركز على هذه الثورة التي تجاوزت المصانع والمعامل وحتى ورش الهواة المحترفين لتصل إلى مناضد وتسريحات الفتيات وكهوف الفتية في غرفهم الخاصة، لينتجوا منها مساهماتٍ تُحسب أعمالاً فنية لها جمهورها العريض الذي لا يحتكم دومًا إلى المقالات النقدية والآراء المتخصصة في تصنيف ما هو فنّ وما هو لصيق بالفنّ.
الصناعة الفنية عن طريق الراتنج تغطي أطيافًا عريضة سواءً من حيث الاتجاه أو الاستخدام أو التكنيك (الطريقة)، وهي مذهلة بصريًا ومفتوحة الاحتمالات تقريبًا، لأن هذه التطبيقات لا تتبع فقط أسلوب وطريقة الفنان «الصانع» نفسه، بل تتبع طبيعة الراتنج ذاته الذي لا يمكن حصر طريقة تشكله وكيفية امتزاجه مع المكونات الأخرى بشكل تام وقطعي.
وإذا أردنا تسليط الضوء بداية على التطبيقات الفنيّة الأقرب للتقليدية والتي يستخدم فيها الراتنج، نجد التشكيل الفني المباشر بالرسم بالراتنج مع مزجه بالصبغات والإضافات المختلفة، وتطبيقه على مستويات لإنتاج لوحات ثلاثية الأبعاد تسحب العين لتفاصيلها وطبقات ظلالها المتراكمة وألوانها وتأثيرات حركة السوائل فيها قبل تعريضها للعامل المصلّب Hardener وتأثير الحرارة أو الضغط.
حضورٌ أول
استغل الفنانون الحداثيون الراتنج في أعمالهم، وكانت هناك بعض الأعمال اللافتة التي تلقت إشاداتٍ ودعوات استضافة من معارض فنية عديدة، منها على سبيل المثال العمل «سامسارا Samsara» للفنان الياباني «إسانا يامادا Isana Ymada» الذي جسّد المفهوم البوذي لدورة الوجود عبر مجسمات لستِّ حيتان من الراتنج الشفاف، تسبح في دائرة تلخّص الأفعال والعواقب عبر الماضي والحاضر والمستقبل، وقد جعل بداخل كل حوت منها منحوتاتٍ لعوالم غريبة يقف المشاهد أمام كل واحد في رحلة تأمل خاصة به.
أعمال أخرى كثيرة اشتغلها فنانوها بالراتنج لكن من بينها لم أستطع إغفال ذكر أعمال الفنانة الإيطالية «أنالُوَ بويريتو Annalu Boeretto»، هذه الفنانة القادمة من البندقية العائمة قدمت أعمالاً علّقت فيها العوالم المتحولة، السائلة في لحظة أبدية تنحبس معها الأنفاس. أنالوَ تحب أن تجمع في أعمالها بين المعروف واللامعروف، بين المؤقت والخالد، بين أعماق الكون اللامتناهي وعوالم الذرة المتناهية الصغر، تقنياتها متجددة وتعتمد في طبيعة أعمالها على خليطٍ بديع من الراتنج والزجاج والورق والمواد الأخرى التي قد تفاجئ المشاهد، وهذا ما يميز الراتنج، ميزة أنه وسيط تجريبي، يجسد أفكار ومشاعر الفنان في أكثر من صورة وشكل ويدعم ذلك بمتانة وصلابة أشدّ مما تبدو عليه صورته الظاهرية المتمثلة في شفافيته ورقته وهشاشته.
من أعمال الفنانة الإيطالية أنالو بويريتو
هل عاد الأثير؟
عامل الفراغ الذي نراه في الأعمال المنتجة بواسطة الراتنج هو مصدر كبير للجاذبية التي يوجِدُها في أعين المشاهدين والمتملكين لهذه القطع، فهذه الخاصية الفيزيائية الشفافة للراتنج تجعله وعاءً كبيرًا لكثير من التفسيرات، لنأخذ مثلاً عند تعبئته ملونًا بين قطع ضخمة من الخشب فهو يُنتج قطعة واحدة تلتحم فيها الكتلة بالفراغ. الراتنج بحضوره الفيزيائي الشفيف هو هذا الفراغ الذي لا يملأ العين بحضور طاغي وإنما بكونه امتداد الهواء والفراغ من حولنا يظهر فجأة ليصبح الشيء شيئًا!
وهو أيضًا يعمل كقاعدة وأساسٍ حامل لمختلف المواد الأخرى التي يختار «الفنان» تقديمها، بزرعها وسطه وكأنها جنين في وسط رحم من الراتنج الحنون، الذي لا يسرق انتباه العين عنها، بل على العكس يهديها للناظر محفوفة محفوظة في قوقعته الشفافة اللامعة والصلبة في آن.
كل هذه التناقضات التي تحيط بصناعة فن الراتنج ابتداء بميوعته الفائقة التي تمكنه من التغلغل بحذق بين أضيق الشقوق والفراغات، مرورًا بطواعيته في الاحتواء داخل القوالب المختلفة، وانتهاءً بصلابته الشديدة التي تمكن الحرفي من التعامل معه بأريحية قطعًا وتشكيلاً وتنعيمًا، وبالتأكيد تلك اللحظة الختامية عند تنظيفه ومسحه بزيت الورنيش وخروج الشكل النهائي اللامع النظيف، كلها تجعل من عملية صنعه أشبه بتصوير فني مسلسل، يشكّل إضافة ممتعة للمشاهد الذي ربما لم يقتنِ القطعة النهائية إلا أنه امتلك لحظات التشكيل المرئية الخالدة.
فنّ شعبي آسر!
قصة الراتنج التي ابتدأت بقطرات عنبر حفظت بداخلها بعض الحشرات ثم بديله الصناعي الذي دخل في الأثاث والأدوات ومواد التشطيب والبناء، مرورًا بنخبة من الفنانين الذين تنبهوا لخواصه المميزة فجعلوا منه مادة أعمالهم الفنية، وصلت أخيرًا إلى المستوى الشعبي، ولكن على خجل في البداية. لكن حينما حلّت جائحة كورونا، كان الكثيرون يحاولون إبقاء معنوياتهم حية ونابضة ويسعون بشدة لإبعاد شبح القلق والاكتئاب بشتى الطرق والوسائل، فبرز اهتمام متصاعد بالحرف اليدوية وبالأخص تصنيف اصنعه بنفسك DIY، وكان العمل مع الراتنج من الأعمال اليدوية الرائجة حينها، حتى أن مشاهدات وسم راتنج #Resin و«صبّ الراتنج» #ResinPour في منصة تيك توك بلغت ٨.٨ مليار مشاهدة.
هذه الانعطافة والاكتشاف الشعبي لفن الراتنج ظل متصاعدًا منذ ذلك الحين، الأمر الذي أثار قلق بعض دعاة حماية البيئة والمهتمين بالصحة العامة الذين فتحوا باب الحديث عن خطر هذه المادة من حيث التعامل معها من دون الالتزام بالإجراءات المفترضة لتجنب التعرض لأبخرة أو تفاعلات كيميائية مضرة، والأكثر حضورًا في نقاش الساعة هو موضوع عدم تحلل مادة الراتنج الصناعي، المتعارف عليه باسم الإيبوكسي Epoxy، فعدم قابليته للتحلل في البيئة الطبيعية واحتمال إضراره بالحياة البحرية هي أمور تثير الكثير من المخاوف وتفتح باب السؤال الكبير: هل يستحق شغفنا الفني والحرفي هذا الثمن المرتفع!
كل هذا جعل منصة بحجم التيك توك واسعة الانتشار تشهد انقلابات من بعض روّادها على صانعي محتوى فن الراتنج بالرغم من شعبيته الصارخة، وامتد الحوار الدائر هناك إلى مقارنة ضرر استخدام الهواة المحدود لهذه المواد العصيّة على التحلل بإنتاج المصانع والاقتصادات الدولية الكبيرة التي تخلّ -وبمستويات خارجة عن المقارنة- حسب رأي الناشطين بقوانين البيئة وأخلاقيات الحفاظ عليها حيةً موفورة للأجيال والمخلوقات القادمة.
أختتم بمقارنة أخرى شخصية تجمع في كِفَّتيها أو كفوفها - لواقعية أكبر- بين معايير الأصالة والحداثة، التحدي والسهولة، الطبيعي والمصنّع، الشغف والموجة، وفي كلٍ من هذه الأضداد شيء من الجمال أو المتعة أو الفائدة، ولكن هناك دوما كفّة ترجح وتحقق المعادلة الأفضل والأمثل ولو بمقدار ضئيل. المجتمع الفني يميل في مجمله لتغليب التقنية والنتيجة على باقي العوامل، وهذا جزء من السبب الذي يجعلنا نعشق الفنون ويجعلها لا تتوقف عن إدهاشنا وملء عوالمنا بالنشوة والأمل والإحساس العالي، لكنه أيضًا وضعٌ غير مستتبّ وغير مستدام بالنظر إلى العوامل الأخرى التي تنهك حِمل الكوكب الأزرق!
أظن الخيار بين أن نقطع شجرة لنحصل على كمية راتنج طبيعي كافية لقطعةٍ فنية واحدة مقابل استخدام راتنج صناعي خيار يميل للأخير بلا شك، ويظل الأمل أن تُبقي معامل المختبراتِ أنوارها مضاءة لبحث حلول جديدة لإشكاليات المنتج القائم.