في وقت متأخر سيكون عليه أن يكتشف أن كل ما فعله في حياته انما هو محاولة لمعرفة موقعه من الجغرافيا.
ولأن الرسم لم يكن وسيلته بل غاية لم يكن يرغب في أن يهتدي إلى وصفتها السحرية الكاملة فقد ظل يرسم كما لو أنه ينشئ متاهة يقيم فيها الناس الذين عرفهم والأمكنة التي عاش فيها والأدعية التي ضربه هواءها والمسافات التي عبرها تاركاً أجزاء من عاطفته عليها إشارات في طريق العودة.
أخيرا اكتشف أن قدره الجغرافي يلاحقه فاستسلم لل"جنوبي" الذي يقيم في داخله وهو الذي كان يلهم يديه صورا لعمالقة مسكونين بالشعر.
حكايات الناس المسافرين
عبد الله حماس هو الجنوبي الذي طبع الرسم الحديث قي المملكة العربية السعودية بشيء رفيع ومتعال من الشغف المجنون بالمساحات المفتوحة. لا تنتهي لوحته حتى تسلمه إلى لوحة أخرى تكون مكملة لها من غير أن تخفف من حركته التي تسرع به إلى لوحة أخرى.
عداء مسافات طويلة والرسم أرض السباق التي لا تكف عن الهام قدميه الرغبة في المضي إلى الأقاصي. يرسم روح متعطشة إلى الرسم الذي يهب الأشياء خيالا ليس فيها. المعادلة معكوسة لدى حماس. فبدلا من أن يستفزه خيال الأشياء نجده يستعين بالرسم ليكسب تلك الأشياء خيالا. وهو عن طريق تلك المحاولة يضم الأشياء إلى عالمه. يعلن أنه عن طريق الرسم يمكنه أن يؤلف عالما هو مزيج من أزمنة اخترقها وأمكنة عاش فيها.
أهذا ما يُسمى الحنين الذي يسعى حماس إلى أن يخلص له ويتخلص منه في الوقت نفسه؟
يرسم حماس حكايات الناس المسافرين وهو إذ يرسم معرضا كاملا على قطعة قماش واحدة يتجاوز طولها الثلاثين مترا فلأنه يريد أن يسترسل من غير أن تعكر صفو سفره فكرة المساحة التقليدية للوحة الواحدة. حدث ذلك في بينالي القاهرة عام 1995. يومها طلب من إدارة البينالي أن توزع لفافته على هيأة لوحات من أجل تيسير مسألة العرض.
عبد الله حماس هو الرسام العربي الوحيد الذي يشعر المرء حين يرى أعماله أنه على سفر. وهنا يعود ضمير الغائب على الرسام والمتلقي معا.
مع عبد الله حماس سيكون علينا لاحقا أن نتحدث عن ريفيرا أو سيكيروس العربي.
يرسم ما يراه وما يتذكره
ولد عبد الله حماس بن سلطان العسيري عام 1953 في قرية "آل عاصم" القريبة من مدينة أبها جنوب المملكة العربية السعودية. انتقل بعد ذلك إلى تبوك مع والده الذي كان يعمل عسكريا. عام 1970 انتقل إلى الرياض للدراسة في معهد التربية الفنية. عمل بعدها مدرسا للتربية الفنية في أبها وجدة لمدة 37 سنة. أقام أول معرض شخصي عام 1974 في الرياض.
في بداياته أعجب حماس بتجربتي جورج براك وبابلو بيكاسو وفي الوقت نفسه حظيت تجربة الفنان الهولندي بيت موندريان باهتمامه. الامر اللافت أنه لا يزال يجد في نفسه ميلا إلى التكعيبية والتجريد بالرغم من أنه استطاع ومنذ زمن طويل أن يشكل أسلوبه الخاص الذي يذكر به ويُسمى باسمه. وكما يبدو فإن تحرره من عقدة الأسلوب وهبته القدرة على أن يكون مستقلا وحرا في معالجاته البصرية للمشاهد التي هي ليست واقعية تماما بحكم لجوئه إلى الذاكرة.
ف"حماس" يرسم ما يراه غير أنه في الوقت نفسه يرسم ما يتذكره. وهو إذ يجد نفسه أمام صورتين للموضوع نفسه فإنه يحاول أن يدمجهما معا مما يمكن أن يقربه من مدارس فنية عالمية، كان قد أعجب بها في أوقات سابقة وأثرت في طريقته في التفكير في الفن.
وإذا ما كان تأثره ببيئة عسير قد طبع أعماله بعناصر بيئية محددة فإن ثقافته الفنية العالية قد فتحت أمامه الدروب في اتجاه معرفة التجارب الفنية العالمية ودراستها والتعمق في تذوقها واستخلاص الدروس منها.
هذا فنان أخلص لبيئته المحلية غير أنه في الوقت نفسه كان حريصا على الانفتاح على العالم.
سرديات بصرية ناقصة
يلجأ عبد الله حماس إلى حيل شكلية مختلفة من أجل أن يختزل حكايات الناس المسافرين إلى نوع من الصمت، يكون بمثابة تمهيد للفضاء التصويري الذي يضم ما يراه مناسبا من أجل أن يكون فعل الرسم خالصا. ذلك ما يدفع به إلى تكبير أو تصغير المشهد بعيدا عن حجمه الحقيقي. فواقعة الرسم بالنسبة ل"حماس" هي التي تفرض املاءاتها. ولأن الفنان لم يلزم نفسه بالواقع فإنه غاليا ما يقيم علاقات بين أشياء ومشاهد لا صلة واقعية تربط بينها وهو عن طريق تلك العلاقات ينجز ما كان الشاعر الأميركي ارشيبالد مكليش يسميه ب"الاتسجام الكوني". يحتكم الفنان في ذلك إلى مزاجه الغامض وإلى حساسيته المرهفة التي تجعله قادرا على أن نضع الأشياء والكائنات في مكانها الحقيقي. يقول الرسام والناقد اسعد عرابي في وصف السلوك الفني لدى الفنان "يتعامل حماس مع السطح التصويري بطريقة سردية وتداعيات متلاحقة لا تقبل التوقف، تماما مثل تربيعات السراميك الملون على الجدار ومثل صفحات ألف ليلة وليلة، وهي تقبل مثلها التاريخ في ليال منفردة". بالمعنى الذي يشير إلى تمكن الفنان من قول كل شيء في لوحة واحدة، من غير أن يغلق علاقتها بما سبقها وما سيليها من لوحات. لوحته قائمة بذاتها وهي في الوقت نفسه جزء من ملحمة فنية وروحية لم تنته بعد. يمكن النظر إلى سرديات عبد الله حماس من جهتين. كمالها ونقصها. وهما حيلتان يمارس من خلالهما الرسام سيطرته على عالم يريده مفتوحا على المجهول.
أطلس ذاكرته المفتوح
لو تُرك الأمر ل"حماس" لما رسم إلا لوحات ذات قياسات كبيرة. حتى في اللوحات الصغيرة نسبيا فإن الفنان يعدنا برسم جداريات كبيرة. هناك توق لدى هذا الفنان لكي يحيط بالعالم بمفهوم السعة أو ما يمكن أن أسميه "ضد ــ المنمنمات’" بما يدفعه إلى استبدال المجهر بالتلسكوب. إنه ينظر من خلال عدسة مكبرة ليرى العالم في الحجم الذي يرغب في أن يكون عليه. لو أتيحت له الفرصة لكان دييغو ريفيرا أو ديفيد الفارو سيكيروس العربي. هو نموذج الفنان الذي تغويه المساحات التي وإن كان لا يلجأ إلى ملئها فلأنه يشعر بامتلائها وغناها التعبيري. وهو ما جعله في أحيان كثيرة يندفع إلى التجريد، لا رغبة منه في الظهور بأسلوب جديد بل استسلاما منه للثراء الجمالي الذي تظهره المساحة الفارغة التي يمتحن فيها اللون قوة تأثيره البصري.
يلقي "حماس" نظرة شاسعة على كائناته فتظهر من غير ملامح كما لو أنه يراها من بعيد. يعرفها ولا يريد أن يعرف بها بقدر ما يرغب في أن يُظهر متعته وهو يرسمها. التفاصيل تعنيه وحده ولا تدخل عنصرا في مسألة الرسم. ذلك ما يفعله أيضا حين يرسم المدن. فتلك المدن لا تكشف عن ذاتها إلا للعين الخبيرة بها. إنها تشير إلى رسامها الذي صنع من تفاصيلها الغائبة أبجدية للغة عاطفته التي سعى إلى لجمها. فهو الوحيد الذي يعرف ما معنى أن تتحول الحجارة والنخلة والغيمة إلى مفردات في لغة بصرية مراوغة،، تتسلل لذة استعمالها من الفنان إلى المتلقي.
الناس التي تشبه مدنها والمدن التي تشبه ناسها هي مفردات في أطلس الذاكرة الذي يصر عبد الله حماس على ابقائه مفتوحا على سعة ما في الكون من مفاجآت ذكية.