طه الصبان بين روح المكان وصورته

single

فاروق يوسف

 

غالبا ما يهبنا رسام المكان صورة لذلك المكان الذي قد لانجده في الواقع كما تخيله الرسام. رأى الرسام ما لا نراه ورسم ما لا يُرسم. ذلك يتعلق بطريقة الرؤية وليس بالوجود الفيزيائي للمكان. هناك مسافة تفصل بين روح المكان والعلاقة الروحية به حين يتمكن الرسام من اختزالها فإنه يكون قادرا عل الانتقال بين الصورة وفكرتها بيسر. ذلك ما فعله الرسام السعودي طه الصبان وهو يرسم الأحياء والأزقة والبيوت لكن في مدينة ذات طابع روحي هي مكة. ليس المطاوب منه أن يفكر بالروحاني في الفن على غرار الروسي فاسيلي كاندنسكي لأن الهواء الذي تنفسه منذ أن وُلد كان دائما ممتلئا بما ينعش الروح قبل الجسد.

 

بدر العساكر Bader Al Asaker on X: "من لوحات الأستاذ الفنان طه الصبان وهو  أحد روّاد الفن التشكيلي السعودي، ومن الأسماء المؤثرة في مسيرتنا الفنيّة..  https://t.co/NUgxxMC46e" / X

 

خيال المسافر بين مدينتين

يمكن أن نرى المدينة من غير أن تظهر بشكل مباشر على سطح اللوحة. سعى عبد الله حماس إلى أن يزاوج بين خياله وخيال المدينة ليضعنا في مواجهة حكاية أن يكون المرء مسافرا بين مدينتين. ربما فكر المسافرون الذين رسمهم في الطريق أكثر مما فكروا في المدينة التي انطلقوا منها أوتلك التي سيصلون إليها. ذلك ما يجعلهم على صلة بالمدينة باعتبارها فكرة تجريدية. في واحدة من لوحاته يصور فيها مراسم الحج يعبر الرسام تجريديا عن فكرة الطرق المتشعبة التي تقود إلى النقطة ذاتها كما لو أنه يود أن يقول "كل الطرق تؤدي إلى الكعبة" لا تعيقه ذاكرة المكان عن التحليق بروحه وهو ما يسر له أن يكتشف الكثير من المعالم الإنسانية في المكان من غير أن يوقف سفر مسافريه. 

 

المكان باعتباره فكرة

لم يسع الصبان إلى تقديم فكرة عن المكان في أعماله بل قدم المكان باعتباره فكرة، محررًا الصورة من معالمها الثابتة ليذهب بها إلى معانيها بل إلى ما يمكن أن تتركه مشاهدها من أثر في الذاكرة البصرية. وهي ذاكرة ذات مزاج متقلب حسب لحظة الرسم. لم يفكر الرسام واقعيا، فالواقع متاح ولا يصلح للرسم في سياق تجربتهما لكنه يظل مصدر إلهام بصري. ذلك ما حرصًا على الوفاء له وكان مصدر القوة الخفية لأعمالهما. لقد حاول الرسامان أن لا يرهنا المكان إلى جمالياته الجاهزة فابتكرا جماليات جديدة سيكون لها حيزها في عملية اختراع مفهوم جديد للمكان.           

 

المــــنصـــــوريــــــــــة | طه الصبّان

 

طه الصبان يستلهم خيال المكان 

أن ترسم مدينة ذلك ما يمكن أن يفعله أي رسام. ولكن حين تكون "مكة" المقدسة هي تلك المدينة فذلك اختبار عسير. ذلك لأن المرء يكون فيها منظورا إليه من قبل قوى لا مرئية يسعى إلى اقتناص فرصة النظر إليها. 

سيكون الرسام في حاجة إلى أن يرسم روح المكان ليراه. ذلك المكان الذي يشف عن احتمالات بصرية عديدة غير مباشرة. ما يعني استسلام الحواس لحدس، هو بوصلتها في سفر يغص بالمفاجآت. ذلك ما يمكن أن يفعله المقدس الذي لا يملك المرء سو الاستسلام لمشيئته. 

 

يتسلق دروب مدينته

أدرك طه الصبان، ابن مكة ورسامها منذ صباه أن تعلقه بالمدينة التي ولد فيها سيتحكم بمستقبله رساما لا يكتفي برسم ما يراه بل يتخطى تلك المهمة التقليدية إلى ما يملأ كيانه برعشة الوجود. ذلك الخيط الوهمي الذي يرتجف قلقا كلما أقبل على الرسم كما لو أنه يؤدي صلاته الأخيرة.  لا يكفي أن يكون المرء ابن المكان ليراه على حقيقته. سيكون على الصبان أن ينصت على الأصوات التي كان يسمعها منذ طفولته لا ليتسلق إيقاعها.

في رسومه تصعد الايقاعات عموديا كما الأدعية. حدث لم يكن غريبا عليه. لكنه من خلال الرسم يهبه طابعا تصويريا. تنتقل المدينة من شكلها الأفقي لتأخذ شكلا عموديا يتماهى مع خيال زائريها.

يتسلق الصبان دروب مدينته بدلا من أن يمشي فيها.

يرينا الرسام تفاصيل رحلته إلى الأعلى كما لو أنه يصف سعادة ليست مكتملة. "مكة ليست هناك ولكنها هنا" يسمع الرسام الصوت فلا يلتفت. إنه يعرف أن المكان الذي يسكنه لن يكون يعيدا عن خيال يديه.  يعرف الصبان أنه يرسم ما لا يُرسم. لقد وهبه القدر مدينة لا تُرسم. فهي تقيم خلف هالات قداستها. إنها تنعم بذلك المزيج من الأصوات والروائح والمشاهد الذي في إمكانه أن يخفي كونا من المرئيات من غير أن يترك له أثرًا. 

سيندم لأنه لم يكن تجريديا منذ البداية. 

غير أن الصبان رسم حياة عاشها بوله عاشق. كان حجازيًا بطريقة تكشف عن عمق صلته بالأشكال المعمارية التي تحيط به، ولكن نغمًا يتسلل من رسومه لابد أن يعيدنا إلى الإيقاع الشخصي الذي يذكر بعالمه. خلق الصبان عالما ما ورائيا بشبه بذلك العالم الذي احتضنه منذ طفولته.     

الحجاز في أعمال طه صبان | مجلة القافلة

ابن جيل تجريبي

ولد طه محمد صالح الصبان في مكة عام 1948. سافر عام 1966 إلى بيروت ومن بعدها إلى روما لدراسة الفنون، غير أن ظروفا شخصية قاهرة أعادته إلى وطنه من غير أن يحقق حلمه. التحق بالعمل في وزارة الإعلام. بعدها سافر إلى بريطانيا لدراسة الإخراج التلفزيوني وكان حريصًا على تطوير هوايته في الرسم بعد أن شارك في جدة بتشجيع من الفنان الرائد عبد الحليم الرضوي في معرض جماعي عام 1967. ثقة الصبان بما يفعل دفعته إلى إقامة معرضه الشخصي الأول في بريطانيا عام 1975. وهو العام نفسه الذي أسس فيه بيت الفنانين بجدة. بعد سنة أقام الفنان معرضه الشخصي الثاني في بريطانيا.

أقام الصبان معارض شخصية في الشارقة وجدة وبيروت. كما شارك في ملتقيات فنية عالمية عديدة. صدر عنه كتابان هما "طه الصبان ملامح من المشوار" عام 2001 و "فن طه الصبان" عام 2007. أنشأ الفنان مسابقة وجائزة تحمل اسمه خصصها للفنانات السعوديات الواعدات.

ينتمي الصبان إلى جيل الحداثة الثاني في المملكة بعد جيل الحداثة الرائد الذي يعتبر عبد الحليم الرضوي أبرز رموزه. ومن المؤكد نقديًا أن جيل الصبان هو الذي أرسى قواعد الحداثة في المحترف السعودي بعد تحرره من قيود الموروث الشعبي والتصوير التقليدي للعادات والتقاليد وتمثله التجريبي للأساليب الفنية الحديثة. 

في بداياته مشى الصبان على الطريق الذي اختطه معلمه الرضوي الذي كانت تربطه به علاقة خاصة، غير أنه سرعان ما خرج عن ذلك الطريق لينتقي بحرية مصادر إلهامه في الفن العالمي. وستثبت النتائج الفنية التي توصل إليها أنه كان محقًا في تمرده. لقد شكلت تجربته أساسًا متينًا لرؤية معاصرة لم تتخل عن حمولتها المحلية من الأفكار والصور. 

الصبان هو ابن جيل تجريبي أخرج المحترف الفني السعودي إلى العالم. 

 

يصف طريقا إلى السماء

"بإيجاز وإفاضة " يرسم الصبان وهو يفكر في الرسم بالطريقة نفسها. كيف أمكنه الجمع بين نقيضين، يشعر كل واحد منهما بنقصه إزاء الآخر؟ 

ببساطة يمكن القول إن الفنان يوجز حين يتعلق الأمر بالرواية الشاملة التي تتداولها الألسن ويفيض حين يقف في مواجهة الحكايات الصغيرة التي لا يعرفها أحد سواه. 

 

لغز ذلك التناقض يكمن في التفاصيل. 

فالصبان الذي ولع برسم الأمكنة لم يخطئ طريقه فيكون بمثابة العين التي يرى من خلالها الآخرون أحلامه. كانت عينه الداخلية هي الحكم دائما. فهو يرسم ما يراه وإن كانت المرئيات التي يظهرها عسيرة على النظر بالنسبة للآخرين الذين يقفون في الموقع ذاته الذي يقف فيه. 

يفرق الفنان حين يرسم بين فعلي النظر والوصف. فهو لا يصف ما ينظر إليه لأنه في حقيقة ما يفعل إنما يعيد إنتاج المشهد الذي يراه بما يناسب أحلامه. أليس من حقه أن يحلم رسومه قبل أن يرسمها؟ ذلك يتيح له أن يرسم ذلك المشهد بمعزل عن واقعيته. سيكون عليه حينها أن يشذبه من ثرثرته الفائضة، بمعنى أنه يوجزه إما حين يرسمه فإنه سيفيض في التعبير عن مشاعره التي لن تكون قاسمًا مشتركًا بينه وبين الآخرين.

سيُقال دائمًا إن طه الصبان رسم مكة، مدينته. وهو قول ينطوي على احتمالات كثيرة، بعضها يغطيه الغموض. ذلك لأن الفنان لم يرسم مكة المحايدة، بل رسم مكة التي هي مدينته. بمعنى أنه رسم ما لا نعرفه عن مكة. رسم حياته، الطفولة والصبا والشباب ورسم الحكايات التي ورثها وأضاف إليها شيئًا من خياله. رسم مكته، وهي طريقه الخاصة إلى سماء، لم يصفها أحد له من قبل. فهي سماؤه مثلما الأرض مكته.     

الفنان التشكيلي طه الصبان.. أعمال فنية خالدة لرائد من رواد الفن التشكيلي  السعودي - مجلة هي

 

مفردات حياة سرية

كما المنمنمات، رسوم طه الصبان غنية بالتفاصيل. غير أنها تفاصيل لم ترسم إلا من أجل أن تحقق صدمة النظر الأولى. سيكون من الصعب إقامة العلاقة بين تلك التفاصيل. إجراء غير ضروري في ظل الشعور بنشوة النظر. غير أن المرء ما أن يصحو م تلك النشوة حت يكتشف أن الرسام قد أوقعه في فخ، مزج الواقعي بالخيالي وما من شيء حقيقي.     

بيسر يمكن القول إن الصبان لا يستعيد في رسومه شيئا من الواقع. هناك تفاصيل تُذكر بالواقع غير أنها حين تُرسم تفك ارتباطها بذلك الواقع. إنها تفاصيل شخصية يمكنها أن تكون مجرد مفردات تجريدية يمكن النظر إليها بمتعة من غير استعادة أصولها. 

تشكل رسوم طه الصبان مصدرًا للتعرف على معجم لحياة مكية شخصية غطت عليها الطقوس العامة. خارج التاريخ تقف حكاياته. وهي حكاية تقف خارج المألوف. فالصبان يرسم من أجل أن يجد فكرته عن العالم لا من أجل أن يصف الفكرة التي كانت تدور من حوله. 

في كل لوحة من لوحاته يتعرف المرء على مفردات حياته السرية. ذلك الفتى المكي الذي سعى إلى أن يكون رساما بالرغم من كل ما أحاط به من أسباب الإحباط. 

أنتج طه الصبان فنًا رفيعًا يليق بمكة.