صفية بن زقر رسامة سعودية من زمن صعب

single

فاروق يوسف

 

ولدت صفية بن زقر عام 1940 وقد كانت علاقة الرسم بالمجتمع آنذاك إشكالية، ولم يكن في الإمكان تطبيع وجوده بيسر، وليس من الوارد اجتماعيًا الاعتراف بقيمته الإنسانية. فكيف إذا كانت المرأة تقف وراء تلك المحاولة؟ ستكون المقاومة مضاعفةً. لذلك كان الكدح الجمالي يعبر في جزء منه عن محاولة المرأة الدفع بإنسانيتها إلى الواجهة الاجتماعية. يوم تعرفتُ على منيرة موصلي نهاية تسعينيات القرن الماضي، كانت لا تزال تخوض صراعًا، الجزء الأكبر يقع في محاولة تطبيع الفن وتحقيق معادلةٍ متوازنةٍ طرفاها الفن والمجتمع.

خاضت نضالًا مزدوجًا في الفن والمجتمع معًا في مواجهة إنكارٍ اجتماعيٍ قائمٍ على سوء فهم تاريخي وعلى مستوى تأسيس قاعدةٍ يكون للمرأة فيها حق المشاركة في صناعة الذائقة الجمالية وتطويرها. وهو ما يعني أنه قد قُدر لها أن تثور على الواقع بظهور مختلف للمرأة، سيكون له فيما بعد دور في تطوير وضعها في المملكة بما يهبها مكانة في عملية الدفع بآليات المجتمع في اتجاه الاعتراف بدور ريادي للمرأة في موقع لم تكن قد تبوأته. 

اخترقت صفية بن زقر المجتمع حين أضافت صفة «رسامة» إلى الصفات التقليدية التي تتمتع بها المرأة، وهو جهد تطلب الكثير من المقاومة، كما أنها عملت بجهد مضاعف من أجل التسلل إلى الوسط الثقافي بوصفها رسامة تتمتع بالموهبة وسواها من مقومات المنافسة التي لم تكن ميسرة. 

كانت مسيرتها صعبة في الاتجاهين. ففيها امتزجت أدوات الإقناع المجتمعي بأساليب تطوير الرؤية الفنية. ولهذا يمكن القول إن كل ما وصلت إليه المرأة في ذلك المجال الرؤيوي والعملي إنما تعود أصوله إلى ما قامت به في ذلك الزمن بعض الرسامات من جهود جبارة. 

 

صفية بن زقر الرسامة الظاهرة

كان التوثيق ذريعتها في اختيار الرسم شرط حياة. ولكن لا يخلق ذلك رسامًا، ذلك ما تنبهت إليه حين لجأت إلى دراسة الرسم أكاديميًا لتتمكن من الحرفة التي أطلقت من خلالها خيال موهبتها.

عزمت منذ بداياتها أن توثق البيئة التي احتضنت طفولتها بعد أن شعرت أن تلك البيئة في طريقها إلى الاندثار، فاهتدت إلى التصوير، ليكون عينها الثالثة. صورت مشاهد من البيئة وطقوس العادات والتقاليد الشعبية. كما ركزت على أزياء المرأة ومقتنياتها الشخصية في مختلف أحوالها. ومن ثم رسمت كل شيء بطريقة تشي بقوة انتمائها إلى ما رسمته. 

انقلاب في المفاهيم

 كل ذلك يمكن المرور به سريعًا لولا أن الأمر يتعلق بـ"صفية بن زقر" التي هي أول امرأة تمارس الرسم في المملكة العربية السعودية. وهي ممارسة تنطوي على حكاية كفاح في بيئة محافظة. 

لقد أحدث ظهور بن زقر في نهاية الستينيات انقلابًا عظيمًا في المفاهيم الثقافية السائدة. فالفنانة اخترقت حاجزين، لا يمكن تخيل اختراقهما في تلك المرحلة— حاجز الموقف الديني المتشدد من الرسم، بالأخص حين يكون تشخيصيًا، وحاجز الموقف الثقافي والاجتماعي من المرأة. 

كانت صفية بن زقر «امرأة رسامة»— صفتان لم يكن التعامل معهما مقبولًا ثقافيًا ولا اجتماعيًا. لذلك فإن النظر إلى ريادتها بقدر لافت من التقدير لا يتعلق فقط بالقيمة الجمالية التي انطوت عليها أعمالها الفنية، بل يتعلق كذلك بالمكانة التاريخية التي احتلتها وهي تؤسس، بجرأة وشجاعة منقطعتي النظير، نوعًا من الحياة، ستصنع من خلاله نساءٌ سعودياتٌ بعدها عوالمَهن التي تكشف عما كان مسكوتًا عنه في ظل الهيمنة الذكورية التي تحرسها سلطة رجال الدين التي لا ترى في المرأة كائنًا ثقافيًا.

وإذا ما تأملنا علاقة المرأة السعودية بالرسم، فلابد أن نعترف أن الشجرة التي زرعتها صفية بن زقر قد أثمرت واشتد عودها. هناك اليوم عشرات من الرسامات السعوديات اللواتي ينافسن الرجال في مستوى وعيهن الجمالي والفكري وقدرتهن على استلهام الأساليب الحديثة في رسم لوحاتهن، ولا يزال أثر تجربة بن زقر واضحًا عليهن. 

يمكن تفسير وجود ذلك الأثر من خلال العودة إلى التربية الفنية التي تعرضت لها الفنانة عبر مراحلها الدراسية وهو ما انعكس على أسلوبها الفني الفريد الذي تنقلت من خلاله بين مدارسَ أوروبيةٍ مختلفةٍ. 

لقد بدأت صفية بن زقر أكاديميةً متشددةً لتسترخي بعدها مع الانطباعية ثم تكتشف ضالتها في رسوم الفرنسي بول سيزان، وهو أبو الحداثة الفنية. ذلك ما يؤكد أن الفنانة، وإن واجهت تحديًا ثقافيًا واجتماعيًا محليًا، فإنها كانت تعمل على إثراء تجربتها بما تعلمته وما اطلعت عليه من التجارب العالمية. 

واقعيًا، أرست الفنانة تقليدًا يقوم على التحول، فهي وإن بدأت بتشدد مدرسي فإن ذلك لم يمعنها من أن تستجيب لمزاج سيزاني انفتحت من خلاله على المدارس الفنية الحديثة. 

تلك امرأة صنعت، عبر خمسين سنة من الكدح، تاريخًا للرسم في بلد يتطلع اليوم إلى الانفتاح على العالم فنيًا.

 

 

صنعت زمنها بإرادة قوية

ولدت صفية بن زقر عام 1940 في حارة الشام بجدة. بين عامي 1947 و1963، عاشت مع أهلها في القاهرة. بعدها غادرت إلى بريطانيا لتلتحق بمدرسة «فنشنك» حيث قضت ثلاث سنوات، بعدها، في أواخر عام 1965، عادت إلى القاهرة لتتلقى دروسًا خصوصية في الرسم. ثم أمضت عامين في كلية سان مارتن للفنون بلندن لتنال شهادة في فني الرسم والغرافيك. عام 1968، أقامت أول معرض شخصي، وذلك في مدرسة دار التربية الحديثة بجدة. بعد ذلك المعرض، انتقلت للعرض في الرياض والظهران والجبيل والمدينة المنورة كما أقامت بعد سنوات معارضَ في باريس وجنيف ولندن.

عام 1995 افتُتِحت دارة صفية بن زقر، بيت أشبه بمتحف يضم أعمال الفنانة في جميع مراحل تطورها الأسلوبي. في تلك الدارة يقع مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة كما تستقبل الدارة ورشات للرسم وتقيم ندوات متخصصة في شؤون الفن. 

أصدرت الفنانة كتابين. أولهما كتاب المملكة العربية السعودية: نظرة فنانة الى الماضي. والثاني كتاب رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي. وسعت بن زقر في الكتابين أن تقدم خلاصات لتجربتها الفنية، وبالأخص على مستوى التعامل مع مفردات البيئة المحلية وسعيها إلى توثيق التراث الشعبي السعودي من خلال الرسم. وهي في ذلك المسعى إنما تمثل مرحلةً مهمةً من مراحل الفن الحديث في السعودية، حيث كانت أعمالها بمنزلة القاعدة التي مزجت تفاصيل البيئة بالنسيج الاجتماعي. وهو ما جعل من رسومها مرجعًا لدراسة أحوال المجتمع السعودي وأساليب احتفائه بالحياة. 

وإذا ما كانت رسومها تغص بالحنين إلى زمن الطفولة، فإنها في الوقت نفسه أنهت فصلًا ضروريًا، عقدت من خلاله صلة قوية بين الرسم والمجتمع، في ظل ظروف تاريخية معقدة لم يكن المجتمع فيها يقبل بالصناعة الفنية، إذ اقتصر ذلك يومها على الحلي والزينة. ولذلك يمكن القول إن صفية بن زقر صنعت زمنها بإرادة المرأة التي تتطلع إلى المستقبل محتفلة بكل ما يُحيط بها من عناصر الجمال. 

 

من لوحات الفنانة صفية بن زقر لمجموعة ألعاب الأطفال الشعبية

الظاهرة الثقافية والتاريخية 

كثر عدد الرسامات في أثناء العقود الأخيرة. هناك اليوم رسامات سعوديات تفوق شهرتُهن شهرةَ بن زقر. سيُقال إن هناك رساماتٍ يرسمن أفضل منها. وهو أمر خاضع للنقاش. لكن لا يؤثر كل ذلك على المكانة الفنية والتاريخية التي تحتلها الفنانة. فهي وحدها من بين كل الفنانات السعوديات يمكن الإشارة إليها بوصفها ظاهرة. 

هي ظاهرة ثقافية. ذلك لأنها نجحت في إدخال مفردة الرسم النسوي في المجال الثقافي ولم يعد عمل المرأة الفني منحصرًا بالأعمال اليدوية التقليدية. صار لها كلمة فيما يتعلق بأحوال الثقافة الحديثة. وهي ظاهرة فنية؛ ذلك لأنها استطاعت عبر تجربتها الفنية التي تمتد لأكثر من خمسين عامًا أن تقدم خبرتها في إطار تحولاتها بين المدارس الأسلوبية دون أن يؤثر ذلك على وضوح شخصيتها. رسمت بن زقر بوحي من تطلعها إلى أن تكون المرأة التي تحقق المعادلة: أن تكون ابنة البيئة السعودية وفي الوقت نفسه وريثة الفن العالمي بكل أساليبه. 

المرأة التي أدخلت الرسم من جهةٍ نسويةٍ إلى المملكة العربية السعودية، كانت في الوقت نفسه المنافسة التي كان على الرسامين الرجال أن ينظروا إليها نظرةً جادةً؛ فهي لا تختبئ وراء حجب الأعمال اليدوية التقليدية. بل لديها من المعرفة في أحوال الفن ما يؤهلها لمنافستهم. تلك هي الفنانة الظاهرة التي جسدتها صفية بن زقر. 

من اللوحات المعبرة عن الصيد

صانعة تاريخ مختلف

تعود رسوم صفية بن زقر إلى زمن هو غير زمننا، ذلك هو زمنها الثقافي، الزمن الذي كافحت الفنانة ليكون ممكنًا. سيظل شيء من ذلك الزمن خالدًا، يشير إلى ما بذلته تلك الرسامة من جهودٍ ليكون الرسم مقبولًا. تجربة الفنانة بن زقر إنما تمثل لحظة تحول في الوعي الاجتماعي. إنها الإشارة التي تقع خارج النص التاريخي. إن صفية بن زقر صانعة تاريخ مختلف. لقد انحرفت بالتاريخ لتملي عليه توقيتات زمنها، وهو زمن المرأة الرسامة. إن المبشرة بالرسم وسيلةً للخلاص هي التي فتحت الباب لأجيال من النساء لكي يدافعن عن اختلافهن عن طريق الرسم.

لقب «رائدة فنية» لا يفيها حقها تمامًا، فقد كانت منذ نعومة أظفارها ناشطةً في مجالات سياسيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ، ولم تكن ممارسة الفن عندها سوى الواجهة التي تتخفى وراءها شخصيتها ذات الأوجه العديدة.