فاروق يوسف
ولدت الفنانة منيرة موصلي عام 1954، وقد بدت حين ذاك كما لو أنها تلجأ إلى الاختلاف بحثًا عن الإثارة والاستفزاز، غير أن الأمر لم يكن كذلك بالتأكيد. هذه امرأة مختلفة في كل شيء، فهي صاحبة قضية. لو قلنا إن تلك القضية كانت نسوية، بمعنى الدفاع عن حقوق المرأة وحدها بالدرجة الأساس لما كنا منصفين، فقد وضعت منيرة، في حياتها كما في فنها، الإنسان هدفًا مقدسًا لها، والإنسانيةَ معيارًا لسلوكها الثقافي. لم تكن موصلي ظاهرةً فنيةً وحسب، بل ظاهرةً إنسانيةً هي أشبه بالنبوءة لما يشهده بلدها السعودية من تحولات الآن، وكأنها قد سبقت زمنها.
مثل بدوي يرسم طريقًا
إن موصلي طرازٌ خاص من الفنانين الذين لا يمكن الفصل بينهم وبين فنهم، كل ما فعلته في حياتها يمكن أن يُعَدَّ جزءًا من الممارسة الفنية. بالرغم من أنها وهبت القضايا السياسية والاجتماعية قدرًا لافتًا من وقتها، غير أنها لم تتخل عن مزاج الفنانة التي تسكنها، كل ذلك الصخب الخارجي يقابله سكون داخلي هو أقرب الى الصمت المتأمل.
الفتاة الحجازية التي درست أبجديات الثورة في شوارع العالم الغاضبة كانت في الوقت نفسه تتأمل الأيقونات الفنية في المتاحف بخشوع. لم تكن الحقيقة لتكتمل إلا من خلال وجهيها المتناقضين. وإذا ما كانت موصلي قد عاشت جزءًا من حياتها غريبةً في بلاد الآخرين، فإن غربتها ربما لم تكن أقلَّ وسط أناسها الذين لم يفهموا نهمها الثوري لالتهام الحياة وإعادة بنائها، وهو ما ألقى بظلاله على مشروعها الفني القائم أصلًا على فكرة «العودة إلى البيت» وهي فكرة مجازية، يغلب عليها مزاج شاعري، يتحرك بخفة بين الماضي والحاضر، ليعثر على مدركاته الشكلية على هيئة رموز شاخصة، مثل بدوي يرسم طريقًا على الرمل.
ابنة الحجاز في العالم
ولدت منيرة موصلي بمكة المكرمة. بدأت رحلتها إلى خارج المملكة مبكرًا حين درست في مدارس لبنانيةً ثم انتقلت إلى القاهرة لإكمال دراستها الجامعية حيث تخرجت من كلية الفنون عام 1974. بعدها واصلت دراستها الفنية في الولايات المتحدة حتى عام 1979. حين عودتها إلى بلدها عملت في شركة أرامكو لتقيم بعدها في البحرين فنانةً متفرغةً.
يمكن توثيق ريادتها من خلال وقائع عديدة. من أبرز تلك الوقائع معرضها المشترك مع الفنانة صفية بن زقر الذي أقيم في مدرسة التربية الحديثة عام 1968. كما أنها أقامت معرضها الشخصي الأول في جدة عام 1973 وحين أقامت في الولايات المتحدة عرضت أعمالها في معرض مشترك عام 1976، وذلك بولاية كاليفورنيا. وفي عام 1994 اختيرت الموصلي للعمل أخصائيةً فنيةً في برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية.
رحلة مع الواسطي
على مستوى المعارض الشخصية يمكن النظر إلى معرضها «الواسطي وأنا» بوصفه البداية الحقيقية لظهور أسلوبها الفني بكل ما انطوى عليه ذلك الأسلوب من طريقة خاصة في التعامل مع الفن والتفكير فيه ومن خلاله. أقيم ذلك المعرض عام 1997 في صالة «عالم الفنون» ببيروت. ولقد أشاد الكثيرون بجرأة الفنانة التي قادتها إلى استعمال مواد مختلفة، منها الورق المصنع يدويًا، والأصباغ الطبيعية، والنحاس وليف أشجار النخيل، والخشب، وورق البردي، والمحار، والنباتات. وكذلك استخدمت تقنية اللصق (كولاج) وأدخلت إلى أعمالها نوافذَ خشبيةً قديمةً، وهي جزء من الخامات الشعبية التي رغبت من خلالها صنع عالم هو مزيج من الواقع والخيال.
صحيح أن موصلي استلهمت في ذلك المعرض رسوم الواسطي غير أنها في الوقت نفسه حاولت أن تطرح فكرة الاستمرارية التي تعتمد أصلًا على النظر إلى المنجز الجمالي التراثي بعيونٍ معاصرة. وهو ما جعلها تقوى على كسر حدود الوهم التي يقيم وراءها الرسم لتنتج أعمالًا فنيةً يمتزج النحت فيها بالرسم، لتوحي بعدم انقطاع الفيض الجمالي، الذي بدأ برسوم العراقي يحيى الواسطي لينتهي بالصناعات الشعبية اليدوية التي تستند أصلًا إلى نظام زخرفي مكرس.
«الصبية تضيء ليلك يا عراق» ذلك هو عنوان معرضها الذي أقامته في قاعة «البارح» بالبحرين عام 2011. وهو، في نظري، من أهم المحطات في مسيرة الفنانة. لسنوات عملت موصلي على تجهيز أعمال ذلك المعرض التي عادت من خلاله إلى السياسة رافعة يدها احتجاجًا على احتلال العراق وما تبعه من جرائم ضد الإنسانية. وبالرغم من الوجع المباشر فإن الفنانة حرصت على أن تتعامل مع الوقائع التي هي مصدر إلهامها بأسلوب فني رفيع، غلب عليه الطابع الاستفهامي المدافع عن الجمال في مواجهة القبح.
آثار خطواتها على السلالم
«على سلالم اللون هناك آثارٌ لخطواتي» هو عنوان المعرض الاستعادي الذي أقامته الفنانة منيرة موصلي قاعة «حافظ» بجدة عام 2016. سبع وخمسون عملًا تعود إلى ما بين سنتي 1968 و2015 قدمتها الفنانة في ذلك المعرض ليكون سجلًا لتطور وعيها الجمالي. ذلك الوعي المتشعب الذي يكشف عن طريقة خاصة في التعامل مع المسائل الفنية كما مع أسئلة الحياة، وبالأخص في جانبها السياسي.
الفنانة التي نشأت على فكر متمرد نظرت إلى الفن بوصفه مرآة لحياتها التي تميزت بالاختلاف. لذلك فإن فنها الذي يشبهها إنما يعود بنا إلى المراحل التي عاشتها وهي تتأمل العالم بغضب، غير أنه كان غضبًا جميلًا لما انطوى عليه من رغبة في التغيير في اتجاه عالم أفضل.
لم تكن منيرة منذ بداياتها مقتنعةً بأن الرسم بشروطه التقليدية يمكن أن يغير الحياة. لذلك لم تشأ أن يكون فنها مجرد وسيلةٍ للراحة البصرية أو التسلية المؤقتة. دفعتها رغبتها في أن يكون فنها صادمًا إلى المزج بين ما يمكن أن يُرسم وببين ما يُمكن استعارته مباشرة من الواقع، لتحقق هدفها الذي لا يقل عن دفع المتلقي إلى تذكر شيء ما من حياته.
تقنيات جديدة ومعالجات محلية
بسبب ميولها السياسية ذات الطابع الإنساني، حرصت الفنانة على الحضور في المناسبات التي تدعم حق الإنسان في البقاء والعيش الكريم. فهي فنانة وهبت فنها وحياتها للقضايا الإنسانية الكبرى. غير أن ذلك الجانب من حياتها، وهو جانب مؤثر في فنها، لا يشكل سببًا رئيسًا لأهميتها في التاريخ الفني السعودي الحديث.
إضافة إلى ريادتها، فإن موصلي فتحت الباب على تقنياتٍ فنيةٍ ما كان من الممكن التعرف عليها إلا من خلال معالجاتها المحلية، وهو ما فعلته عن عمد، مدفوعةً برغبةٍ عميقةٍ في أن يكون لأثر مرورها على السلالم إيقاعٌ يُذَكّر بها وبمحاولتها الفنية.
لقد تعلمت الفنانة أثناء إقامتها في الولايات المتحدة أشياءَ كثيرةً حاولت أن تقدمها لكن من خلال طابع يستجيب لطريقتها الخاصة في النظر إلى ثقافة ومزاج مجتمعها الجمالي.
أضافت ابنة الحجاز المتمردة من خلال فنها مَعلمًا يشير إلى عمق الوعي الجمالي الذي تنطوي عليه الممارسة الفنية في مجتمعها. لذلك يمكن القول إن فن منيرة موصلي ينطوي على كثيرٍ من الحث والتحريض على البحث في طبقات ذلك الوعي الجمالي من أجل العثور على نفائسه.
توفيت منيرة موصلي عام 2019.