سارة الراجحي
حينما نفتح سِفر الفنّ السعودي، والفنّ الخليجي على وجه العموم، نجد أن للمكان حضور قوي وفاعل في تشكيل سماته الأساسية، وأن قراءة هذا السِفر وإدراكه تستلزم الالتفات للأمكنة والبيئات التي أبدعته ونشأ فيها، والتنقيب في عمق العلاقات بينها وبين الفنّانين، لا سيّما الروّاد منهم.
يُعدّ الفنان عبد الرحمن السليمان أحد روّاد هذا الفنّ المكاني، فالأحساء التي عاش فيها طفولته، ببيئاتها المتعددة، الحضرية والريفية والبدوية وحتى الصناعية، تعمُر لوحاته وتسكنها، وكأنها مُنطلَقها ومنتهاها، يعيش معها وتعيش فيه طوال مسيرته واختلاف أساليبه الفنيّة.
يعود مرارًا إلى ذلك المكان الذي ترك وارتسم في قرارته، مكان الطفولة والمعالم التي تمنح الألفة والثقة ليُعيد بعثه والاحتفاء به، لذلك يقول: «كنت وما زلت حريصًا على استرجاع وإثراء نظرتي لما تبقى من الصور. وقد أدى ذلك إلى أعمال نبش وبحث ونفض للغبار عن الأزمنة والأماكن التي أعرفها أو ربما لا أعرفها».
إنه يتجاوز الحد الجغرافي والوصفي، فتلك الأماكن ليست مساحات وجدرانًا وأروقة وأسواقًا فقط، إنما آثار وأخاديد في أغوار النفس، يحتفرها سيل الحنين فتنبجس منها الألوان والأشكال والمعاني الحيّة المتجددة. وهو بهذا الفنّ يقاوم البِلى والتحول الذي يسكن المدن، ويتغلّب على هاجس المحو والنسيان.
تنقّل الفنّان عبد الرحمن السليمان بين أساليب فنيّة عدة، كالواقعية والتكعيبية والتجريد، كونه يميل إلى الاكتشاف قدر الإمكان، ويرغب في شحن التجارب بما يساعدها على النمو والتجدد، وكأن فنّه كلما اكتفى بذاته بدأ بداية جديدة، وهو في هذا التنقل وهذه المراحل يصطحب معه الأمكنة نفسها إنما بتصويرات مختلفة، وجماليات متحولة، وكأنها تتحرر من نفسها، وتمنح بداية خالصة ودهشة غير التي منحتها كل تجربة سابقة، وغير التي منحتها الأماكن ذاتها.
وهذا الفنّ الذي يُعيد صنع الواقع الذي رآه وعايشه الفنّان بما فيه من إشارات وعلامات ورموز يهِب المتلقي قدرة على تخيل واقعه هو، ويجعل لجماليته قابلية الانتقال إليه، فيحدث نوع من التعلق، إذ يرى المتلقي مكان الفنان العتيق فيتوقف؛ ليعاود تذكّر مكانه هو ويرى فيها بيته هو، لذلك هو ليس فنًّا طَلَليًّا وخلّاقًّا فحسب؛ بل فنٌّ عابر للذات وللمحلية.
عبد الرحمن السليمان فنان تشكيلي سعودي، ولد في الأحساء عام 1954م، أول رئيس لمجلس إدارة الجمعية السعودية للفنون التشكيلية بالانتخاب، وعضو مؤسس لجمعية الفنون البصرية في المملكة العربية السعودية. صدر له عدد من المؤلفات، من أبرزها كتاب «مسيرة الفنّ التشكيلي السعودي» وكتاب «الفنّ التشكيلي السعودي في المنطقة الشرقية» و «تحولات الفن التشكيلي السعودي»، وهو حاصل على جوائز وتكريماتٍ عدة، من ضمنها جائزة بينالي الشارقة الدولي عام 1997م، وتكريم معهد مسك للفنون بالرياض عام ٢٠١٨.
أقام العديد من المعارض الفنية، منها ستة عشر معرضًا شخصيًا في مختلف الدول العربية، كما عُرضت أعماله في معارض جماعية في العديد من دول العالم. من أشهر لوحاته لوحة «مصلين يغادرون المسجد» 1981م، التي بيعت في دار مزادات «سوذبيز» بلندن عام 2018م، ولوحة «جلسة وقت الضحى» 1980م، ولوحة «مسحة على رأس يتيم» و«غفوة» التي بيعتا في مزاد «سوذبيز» بلندن أيضًا عامي 2019 و 2020م.
نشر هذا المقال بالتعاون مع الجمعية السعودية للأدب المقارن